وفي كلّ من هذه المسائل استطاع المؤلف أن يستخلص عددا من الصّيغ العامة الّتي تحدد رأي القرآن ، وتستوفي النّاحية النّظرية. وكان هدفه الإجابة على هذا السّؤال الجوهري : كيف يصور القرآن عناصر الحياة الأخلاقية؟ وعند ما يحتدم النّزاع بين المدارس الفكرية كان الإحتكام في جميع الحالات إلى نصوص الكتاب المنزل للإهتداء بها في الأخذ برأي معين دون سواه.
وتهيمن على الكتاب من أوّله إلى آخره فكرة رئيسية ، وهي أنّ الحاسة الخلقية انبعاث داخلي فطري ، وأنّ القانون الأخلاقي قد طبع في النّفس الإنسانية منذ نشأتها (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (١) ، والواقع أنّ الإنسان العادي يستطيع أن يميز إلى حد ما ، وفي كلّ ما يقوم به من أنواع السّلوك ، بين ما هو «خير» ، وما هو «شرّ» ، وبين ما هو «محايد» لا ينفع ، ولا يضر ؛ وذلك مثلما يميز في عالم المحسوس بين «الجميل» و«القبيح» ، و«المجرد» من كلّ تعبير. ولا يقتصر الأمر فقط على «المعرفة» بل إنّ مظهر الفعل الحسن ، أو الفعل القبيح يثير فينا مشاعر جد مختلفة ، فنمتدح بعض أنواع من السّلوك ، ونستهجن بعضها الآخر.
غير أنّ هذا القانون الأخلاقي المطبوع فينا ناقص ، وغير كاف. ليس فقط لأنّ العادة ، والوراثة ، وأثر البيئة ، والمصالح المباشرة تفسد نوازعنا التّلقائية ، وتلقي أنواعا من الظّلال على نور بصيرتنا الفطرية ، وليس فقط لأنّ شواغل الحياة في الدّنيا تستوعب الجزء الأكبر من نشاطنا الواعي ؛ بل إنّ ممارسة الأخلاق في أحسن الظّروف الملائمة تواجه صعوبة أخرى رئيسية : وهي أنّ الضّمير إذا اقتصر على مصادره الفطرية وحدها ، وجد نفسه عاجزا ، في غالب الأحيان ، عن أن يقدم في جميع الظّروف ،
__________________
(١) الشّمس : ٧ ـ ٨.