بسعادتها الذاتية ، عند ما تتحد ببدن معذب ، أو محروم محارب في حاجاته ، أو حتّى مصدوم في أذواقه الجمالية. ألا تستطيع قرصة ذبابة ، أو ضوضاء محرك ، ورائحة قوية ، وحرارة زائدة ، وبرد شديد ـ أن تبعثر الإنتباه المكب على أمور مجردة ، بصورة تتفاوت عمقا ، متى ما أحس المرء بها؟ .. ألا يعني تجنيب البدن هذه المكاره ، وتوفير هدوء كامل بقدر الإمكان له ـ أننا في نفس الوقت نحرر الرّوح ، ونتيح لها أعظم حالات الأزدهار؟ .. حسبنا أن نقول هذا كيما نسوغ اهتمامنا بصحتنا ، وبراحتنا ، وابتعادنا عن الألم ، وعن الموت ، وحتّى نقيم ذلك كلّه على أساس أخلاقي.
وانطلاقا من هذا الرّأي نقرر أنّ أي نظام للثواب الأخلاقي لا يلبي هذه المطالب الأولية للحياة المادية ـ سوف يكون بكلّ جلاء نظاما أبتر مشوها. وما كان هذا النّقص بالذي يمكن أن نلحظه في النّظام القرآني ؛ ذلك أنّه لا يقتصر على أن يضمن للصالحين في الدّار الآخرة عدم الموت فحسب ، وهو قوله تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) (١) ، أو الحماية من الشّرور. وهو قوله : (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ) (٢) ، بل إنّه يضمن أيضا إبعادهم عن أماكن العذاب : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ) (٣) ، ويضمن لهم الرّاحة ، (فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ) (٤) ،
__________________
(١) الدّخان : ٥٦.
(٢) الزّمر : ٦١ ، غافر : ٧ و ٩ ، الدّخان : ٥٦ ، الأحقاف : ٣١ ، الطّور : ١٨ و ٢٧ ، الحشر : ١٠ ، التّحريم : ٦ ، الإنسان : ١١ ، الليل : ١٧.
(٣) الأنبياء : ١٠١ و ١٠٢.
(٤) الواقعة : ٨٩.