إنّ جمود المفهوم التّشريعي هو في الحقيقة تجميد لحركة البناء الإجتماعي ، وتعطيل لوظيفة المنهاج الأخلاقي ، وهو في النّهاية تضييع لأهداف المجتمع في التّقدم ، والحضارة.
على أنّ الجرائم الفاشية لا تستقل بالدلالة على الفوضى الأخلاقية ، فإنّ هناك أمثلة أخرى لجرائم أكثر إستتارا ، وإن لم تكن أقل خطرا ، وخذ مثلا موقف الفلاح الّذي يستأجر قطعة أرض يزرعها ، ويستنبط منها الخير الكثير يعول به أسرته ، ومع ذلك تموت يده عن دفع إيجار الأرض لمالكها عند ما يحين أجله ، ويختلق شتى المعاذير للتهرب من دفع الحقّ ، مستغلا في ذلك إنحياز القانون له ، فهو لا يحرص أساسا على أداء ما عليه ، حرصه على إستلاب حقوق الآخرين.
أي خلق هذا الّذي يقوم على السّحت ، والإستغلال (١)؟!!
وخذ مثلا أيضا العامل الّذي يهمل في أداء مهنته ، أو يستخدم (الفهلوة) في إنتاجه ، أو يتمارض اعتمادا على مرونة قوانين العمل ، ونهبا للإجازات المرضية ، والإعتيادية ، والعرضية ، فإذا ما وجّه إلى مراعاة الإخلاص في عمله رفع عقيرته قائلا : (على قدر فلوسهم)!!
ما ذا يمكن أن يكون في هذا السّلوك من خير ، أو ضمان لمستقبل الأمّة؟!
ومع ذلك فإنّ كلّ ما قدمنا عن الجريمة ، والإنحراف هو في الغالب مما يدخل تحت طائلة القانون ، فهو جريمة بمقياس القانون ، إلى جانب أنّه كذلك بمقياس
__________________
(١) يقصد الآيات ، والرّوايات الّتي تحرم أكل مال السّحت ، كثمن الخمر ، والنّبيذ المسكر ، ولا خلاف بين المسلمين في ذلك ، قال تعالى : (وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) المائدة : ٦٢ ـ ٦٣.