إنّ النّفس الّتي تثق في هذه الحقيقة لا ترتد أبدا إلى ذلك اليأس القاتل ، ولا إلى ذلك التّساهل البليد نحو الذات. ذلك أنّ فكرة لطف الشّرع الإلهي الّذي لا يأمرنا بأن نخرج من فطرتنا ، يقابلها في ضميرنا فكرة العلم الشّامل العلوي لخالق هذا الشّرع. هذا العلم الشّامل وحده ، الّذي يطلع على أعماق قلوبنا ، والّذي يقيس قياسا دقيقا حدود قدرتنا ـ هو الّذي يستطيع أن يحكم بحقّ إن كنّا لا نزال نطيق أن نبذل جهدا ، لكشف نقائصنا المستورة ، نقائص سلوكنا الباطني ، وتصحيها ـ هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى ، إنّ فكرة وجود الله ذي الجلال في كلّ مكان ، تلك الفكرة الّتي تملأ نفوسنا اهتماما بالأخلاق ، وبالصرامة نحو أنفسنا ـ هذه الفكرة يخففها بدورها فكرة الرّحمة الّتي تمديدها دائما إلينا ، لا من أجل أن تتلقى أولئك الّذين يرجعون من غفلتهم ، ويحاولون أن ينضهوا من كبوتهم ـ فحسب ، ولكن من أجل أن تساعدهم ، وتمدهم بقوة يتراحب مداها دائما.
في هذا الضّوء يصف لنا القرآن حالة نفس المؤمن ، فهي ليست يائسة من روح الله : (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) (١) ، ولا هي آمنة من مكره : (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) (٢) وإنّما هي دائما في منتصف طريق ، بين الأمل ، والخوف ، أو بالأحرى ، تغذي كلا الشّعورين في وقت واحد : (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) (٣).
__________________
(١) يوسف : ٨٧.
(٢) الأعراف : ٩٩.
(٣) الزّمر : ٩.