هذا وجدناه ـ بعد أن يقيس المسافة بين المجاهد ، الّذي يبذل نفسه ، وماله ، والخالف الّذي يبقى في المؤخرة ، وبعد أن يعلن أفضلية المجاهد في قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً) (١) ، إذا به يستدرك قائلا : (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) (٢).
وهذه المقارنة ذاتها ، بل ونفس التّقدير ، بين منفقين ، أحدهما بادر بالإنفاق في الظّروف الشّاقة ، على حين جاء الآخر من بعد ، عند ما تضاءلت المشقات كثيرا : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (٣).
ومن هنا ينبع قانون عام ذكره النّبي صلىاللهعليهوسلم في قوله : «المؤمن القويّ خير ، وأحبّ إلى الله من المؤمن الضّعيف ، وفي كلّ خير» (٤).
ومن هنا نفهم بسهولة لما ذا تتغير لهجة القرآن ، فهو حين يتحدث عن موقف عدمت فيه الطّاقة كلية ، وسيطر عليه تراخ عظيم التّفريط ، يكون التّحريم صريحا ، واللّوم عنيفا ، فأمّا إذا كان الأمر هنا أمر إهمال ضئيل ، وضعف نسبي
__________________
(١) النّساء : ٩٥.
(٢) النّساء : ٩٥.
(٣) الحديد : ١٠.
(٤) انظر ، صحيح مسلم : ٤ / ٢٠٥٢ ح ٢٦٦٤ ، وقد تقدم إستخراجه ، وانظر ، مسند الحميدي : ٢ / ٤٧٤ ح ١١٤ ، نوادر الاصول في أحاديث الرّسول : ١ / ٤٠٤ ، فتح الباري : ١٣ / ٢٢٧ ، التّمهيد لابن عبد البر : ٩ / ٢٨٧ ، تحفة الأحوذي : ٥ / ٢٢٦ ، شرح النّووي على صحيح مسلم : ٦ / ٢٢ ، فيض القدير : ١ / ٨٣ ، تهذيب الكمال : ٩ / ١٣٥.