وهنا ندرك الصّفة النّسبية للجهد المحمود ، فليست القوة المادية ، وحدها هي الّتي لا يتساوى نصيب النّاس فيها ، بل إنّ الطّاقة الأخلاقية كذلك ، فما بعد إفراطا ، وتعصبا بالنسبة إلى بعض النّاس ، ليس كذلك بالضرورة بالنسبة إلى آخرين .. وإذا دعم الحبّ ، والخوف ، والأمل النّفس فإنّ سائر الآلام ، والمشقات الّتي يتعرض لها المرء لا يحس بها ، أو تكون على الأقل محتملة ، وهي في كلّ حال أقل إضرارا. إنّها تجلب السّرور إلى القلب ، والسّعادة إلى النّفس المخلصة ، ولذلك أبدى جمهور من المسلمين الأوائل هذه الرّوح في التّضحية الكريمة ، ولم ينكر أحد مآثرهم. وإنّ القرآن ليشير إلى العمل المستبسل الّذي أبداه «صهيب» في قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) (١) ، وذلك أنّه حين كان المشركون يقتفون آثار النّبي صلىاللهعليهوسلم ، وصحابته الّذين أرادوا الهجرة معه ـ أقبل صهيب مهاجرا نحو رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فاتبعه نفر من قريش من المشركين ، فنزل عن راحلته ، ونثر ما في كنانته ، وأخذ قوسه ، ثمّ قال : يا معشر قريش ، لقد علمتم أنّي من أرماكم رجلا ، وأيم الله لا تصلون إليّ حتّى أرمي بما في كنانتي ، ثمّ أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء ، ثمّ افعلوا ما شئتم.
قالوا : دلنا على بيتك ، ومالك بمكّة ونخلي عنك ، وعاهدوه إن دلهم أن يدعوه ، ففعل. ومن الواضح أنّ الواجب لم يكن ليقتضي هذا الّذي فعل ، ولكنها التّضحية الّتي سجلها القرآن في محكم آياته ، وهي تضحية مدحها رسول الله صلىاللهعليهوسلم حين قدم عليه صهيب بالمدينة وقال : «أبا يحيى ، ربح البيع ، ربح البيع» (٢).
__________________
(١) البقرة : ٢٠٧.
(٢) انظر ، أسباب النّزول للواحدي : ٣٩ ، طبعة الحلبي ، وورد أيضا في تفسير الدّر المنثور للسيوطي : ـ