ويكلم الله موسى عليهالسلام من ذلك العمود الغمام الذي هو نور ويخاطبه ويناجيه ، ويأمره وينهاه ، وهو واقف عند التابوت صامد إلى ما بين الكروبيين فإذا فصل الخطاب يخبر بني إسرائيل بما أوحاه الله عزوجل إليه من الأوامر والنواهي.
وإذا تحاكموا إليه في شيء ليس عنده من الله فيه شيء ، يجيء إلى قبة الزمان ، ويقف عند التابوت ويصمد لما بين ذينك الكروبيين ، فيأتيه الخطاب بما فيه فصل تلك الحكومة.
وقد كان هذا مشروعا لهم في زمانهم ، أعني استعمال الذهب والحرير المصبغ واللآلىء ، في معبدهم وعند مصلاهم ، فأما في شريعتنا فلا ، بل قد نهينا عن زخرفة المساجد وتزيينها ؛ لئلا تشغل المصلين ، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، لما وسع في مسجد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، للذي وكله على عمارته : ابن للناس ما يكنهم ، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس. وقال ابن عباس : لا نزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى كنائسهم.
وهذا من باب التشريف والتكريم والتنزيه ، فهذه الأمة غير مشابهة من كان قبلهم من الأمم ؛ إذ جمع الله هممهم (١) في صلاتهم على التوجه إليه والإقبال عليه ، وصان أبصارهم وخواطرهم عن الاشتغال والتفكر في غير ما هم بصدده (٢) ، من العبادة العظيمة. فلله الحمد والمنة.
وقد كانت قبة الزمان هذه مع بني إسرائيل في التيه ، يصلون إليها وهي قبلتهم وكعبتهم ، وإمامهم كليم الله موسى عليهالسلام ، ومقدم القربان أخوه هارون عليهالسلام.
فلما مات هارون ثم موسى عليهماالسلام استمر بنو هارون في الذي كان يليه أبوهم ؛ من أمر القربان وهو فيهم إلى الآن.
وقام بأعباء النبوة بعد موسى وتدبير الأمر (٣) بعده فتاه يوشع بن نون عليهالسلام ، وهو الذي دخل بهم بيت المقدس كما سيأتي بيانه.
والمقصود هنا أنه لما استقرت يده على البيت المقدس نصب هذه القبة على صخرة بيت المقدس فكانوا يصلون إليها. فلما بادت صلوا إلى محلتها وهي الصخرة ، فلهذا كانت قبلة الأنبياء بعده إلى زمان رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وقد صلى إليها رسول الله صلىاللهعليهوسلم قبل الهجرة ، وكان يجعل الكعبة بين يديه ، فلما هاجر أمر بالصلاة إلى بيت المقدس فصلى إليها ستة عشر ـ وقيل سبعة عشر ـ شهرا.
ثم حولت القبلة إلى الكعبة وهي قبلة إبراهيم في شعبان سنة اثنتين في وقت صلاة العصر وقيل الظهر ، كما بسطنا ذلك في التفسير عند قوله تعالى : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها). إلى قوله : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ). الآيات.
__________________
(١) م : همهم.
(٢) و : في غير ما هم فيه.
(٣) و : الأمور.