يستنكر نقمتي ، فإني إنما أكرمت هؤلاء القوم على طاعتي ، ولو أنهم عصوني لأنزلتهم دار العاصين ، إلا أن أتداركهم برحمتي.
قال أرميا : يا رب اتخذت إبراهيم خليلا وحفظتنا به ، وموسى قربته نجيا فنسألك أن تحفظنا ولا تتخطفنا ولا تسلط علينا عدونا. فأوحى الله إليه ؛ يا أرميا إني قدستك في بطن أمك وأخرتك إلى هذا اليوم ، فلو أن قومك حفظوا اليتامى والأرامل والمساكين وابن السبيل لكنت الداعم لهم وكانوا عندي بمنزلة جنة ناعم شجرها طاهر ماؤها ولا يغور ماؤها ولا تبور ثمارها ولا تنقطع ، ولكن سأشكو إليك بني إسرائيل : إني كنت لهم بمنزلة الراعي الشفيق أجنبهم كل قحط وكل عسرة وأتبع بهم الخصب حتى صاروا كباشا ينطح بعضها بعضا ، فيا ويلهم ثم يا ويلهم ، إنما أكرم من أكرمني وأهين من هان عليه أمري. إن من كان قبل هؤلاء القوم من القرون يستخفون بمعصيتي وإن هؤلاء القوم يتبرعون بمعصيتي تبرعا فيظهرونها في المساجد والأسواق وعلى رؤوس الجبال وظلال الأشجار حتى عجت السماء إليّ منهم وعجت الأرض والجبال نفرت منها الوحوش بأطراف الأرض وأقاصيها ، وفي كل ذلك لا ينتهون ولا ينتفعون بما علموا من الكتاب.
قال : فلما بلغهم أرميا رسالة ربهم وسمعوا ما فيها من الوعيد والعذاب عصوه وكذبوه واتهموه وقالوا : كذبت وأعظمت على الله الفرية فتزعم أن الله معطل أرضه ومساجده من كتابه وعبادته وتوحيده؟ فمن يعبده حين لا يبقى له في الأرض عابد ولا مسجد ولا كتاب؟! لقد أعظمت الفرية على الله واعتراك الجنون. فأخذوه وقيدوه وسجنوه ، فعند ذلك بعث الله عليهم بختنصر فأقبل يسير بجنوده حتى نزل بساحتهم ثم حاصرهم فكان كما قال الله تعالى : (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ) قال :
فلما طال بهم الحصر نزلوا على حكمه ففتحوا الأبواب وتخللوا الأزقة وذلك قوله : (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ) وحكم فيهم حكم الجاهلية وبطش الجبارين ، فقتل منهم الثلث وسبى الثلث وترك الزمنى والشيوخ والعجائز ، ثم وطئهم بالخيل وهدم بيت المقدس وساق الصبيان وأوقف النساء في الأسواق حاسرات ، وقتل المقاتلة وخرب الحصون وهدم المساجد وحرق التوراة ، وسأل عن دانيال الذي كان قد كتب له الكتاب فوجده قد مات وأخرج أهل بيته الكتاب إليه وان فيهم دانيال بن حزقيل الأصغر وميشائيل وعزرائيل وميخائيل ، فأمضى لهم ذلك الكتاب. وكان دانيال بن حزقيل خلفا من دانيال الأكبر ودخل بختنصر بجنوده بيت المقدس ووطىء الشام كلها وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم ، فلما فرغ منهم انصرف راجعا وحمل الأموال التي كانت بها وساق السبايا فبلغ معه عدة صبيانهم من أبناء الأحبار والملوك تسعين ألف غلام ، وقذف الكناسات في بيت المقدس وذبح فيه الخنازير وكان الغلمان سبعة آلاف غلام من بيت داود ، وأحد عشر ألفا من سبط يوسف بن يعقوب وأخيه بنيامين ، وثمانية آلاف من سبط ايشي بن يعقوب ، وأربعة عشر ألفا من سبط زبالون ونفتالي ابني يعقوب ، وأربعة عشر ألفا من سبط دان بن يعقوب ، وثمانية آلاف من سبط يستاخر ابن يعقوب ، وألفين من سبط زيكون بن يعقوب ، وأربعة آلاف من سبط روبيل ولاوي ، واثني عشر ألفا من سائر بني إسرائيل. وانطلق حتى قدم أرض بابل.
قال إسحاق بن بشر : قال وهب بن منبه : فلما فعل ما فعل قيل له كان لهم صاحب يحذرهم