حقا إن القرآن كتاب دين وهداية وتشريع وعلم وغير ذلك مما يمكن أن تحج إليه المقاصد الإنسانية تلتمس فيه زادا ينمى المعارف ، ويثرى العلوم ، ويفتح مغاليق الأمور. ولكنه قبل كل ذلك معجزة فنية بهرت سامعيها أول ما بهرتهم بالبيان ، والنظم ، والقول ، فوجدوا لذلك حلاوة ، وعليه طلاوة ، وهم أهل لسن وفصاحة ، فنحن نعلم أن المعجزة تكون من جنس معجزات المخاطبين ولكنها من حيث الدرجة أعلى قدرا وأصعب دركا وأعزّ منالا.
تخرج من هذا إلى أن دراسة إعجاز القرآن إن أغفلت تفسيرا كاللطائف ـ راعى فيه صاحبه أدب المفسّر وأدب المفسّر ـ إنما تغفل عن رافد غنى من روافد الدراسات القرآنية.
ويمكن أن نضرب أمثلة سريعة توضح طريقة القشيري عند ما يتصدّى لبعض الجوانب فى الأسلوب القرآنى.
فمن اللفظة المفردة تنبعث إيحاءات جميلة مؤثرة تزيد المعنى قوة وتأكيدا ؛ كأن يقول عند قوله تعالى : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) : اللعب فعل يجرى على غير ترتيب ، تشبيها باللّعاب الذي يسيل لا على نظام مخصوص ، فوصف المنافق باللعاب تصويرا لتردده وتحيره وشكه فى عقيدته».
والتسبيح عنده مرتبط «بالسباحة فى بحار التوحيد بلا شاطئ ، فبعد ما حصلوا فيها فلا خروج ولا براح فحازت أيديهم جواهر التفريد ، نظموها فى عقود الإيمان ورصعوها فى أطواق الوصلة».
والفجر «انفجار الصبح كما يتفجّر الماء من الصخر».
ومن القصة تنبعث إيحاءات ممتعة ؛ فمريم حين خوطبت «وهزّى إليك بجذع النخلة» : كان ذلك الجذع يابسا أخرج الله سبحانه فى الوقت الرّطب الجنىّ ، وكان ذلك آية ودلالة على أن الذي قدر على فعل هذا قادر على خلق عيسى عليهالسلام من غير أب ، وقد أمرت بهز النخلة اليابسة حينما جاءتها علاقة الولد بعد أن كانت لا تتكلف السعى إذ كان زكريا يدخل عليها المحراب فيجد عندها رزقا ، أمرت بهز النخلة وهى فى أضعف حالها زمان قرب عهدها بوضع الولد ليعلم أن العلاقة توجب المشقة والعناء ، أمرت بهز النخلة اليابسة وأمكنها ذلك وهى فى حال ضعفها وفى ذلك أوضح دلالة على صدقها ...».