من ربهم ويقين وكشف وتحقيق ، وذلك أنه تجلّى لقلوبهم أولا بآياته ثم تجلّى لها بصفاته ثم تجلى لها بحقه وذاته.
وقوم (عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) بدلائل العقول ؛ وضعوها فى موضعهما فوصلوا إلى حقائق العلوم ، وقوم على بصيرة ملاطفات التقريب فبمشاهدة الرحمة والكرم وصلوا إلى بيان اليقين ، وآخرون ظهرت الحقيقة لأسرارهم فشهدوا بالغيب حقيقة الصمدية ، فوصلوا بحكم العرفان إلى عين الاستبصار.
(وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفلاح الظفر بالبغية (١) ، والفوز بالطلبة ، ولقد نال القوم البقاء فى مشهد اللقاء فظفروا بقهر الأعداء ، وهى غانمة (٢) النفوس من هواجسها ، ثم زلات القلوب من خواطرها (٣) ، فوقفوا بالحق للحق بلا واسطة من عقل ، أو رجوع إلى ذكر وفكر.
قوله جلّ ذكره : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)
من كان فى غطاء وصفه محجوبا عن شهود حقه فالإشارة لنعته أنه سيان عنده قول من دلّه على الحق ، وقول من أعانه على استجلاب الحظ ، بل هو إلى دواعى الغفلة أميل ، وفى الإصغاء إليها أرغب. كيف لا؟ وهو بكىّ الفرقة موسوم ، وفى سجن الغيبة محبوس ، وعن محل القربة ممنوع ، لا يحصل منهم إيمان ، لأنه ليس لهم من الحق أمان ؛ فلمّا لم يؤمنوا لم يؤمنوا. حكم سبق من الله حتم ، وقول له فصل ، وإن القدرة لا تعارض ، ومن زاحم الحق فى القضية (٤) كبسته سطوات العزة ، وقصمته بواده (٥) الحكم.
ويقال إن الكافر لا يرعوى عن ضلالته لما سبق من شقاوته ، وكذلك المربوط بأغلال نفسه محجوب عن شهود غيبه وحقه ، فهو لا يبصر رشده ، ولا يسلك قصده. ويقال إن
__________________
(١) وردت فى ص (بالبغتة) وهى خطأ من الناسخ.
(٢) الغاغة مرعى البهائم.
(٣) يقول القشيري فى رسالته : إن الهاجس خاص بالنفس والخاطر خاص بالقلب ص ٤٦ ، ٤٧.
(٤) القضية هنا معناها القضاء.
(٥) البواده ما يفجأ القلب من الغيب على سبيل الوهلة (الرسالة ص ٤٤).