أنزل من السماء ماء المطر الذي هو سبب حياة الأرضين ، وذلك بقدر معلوم. ثم .. البلاد مختلفة فى السّقى : فبعضها خصب ، وبعضها جدب ، وسنة يزيد وسنة ينقص ، سنة يفيض وسنة يغيض.
كذلك أنزلنا من السماء ماء الرحمة فيحيى القلوب ، وهى مختلفة فى الشّرب : فمن موسّع عليه رزقه منه ، ومن مضيّق مقتّر عليه. ومن وقت هو وقت سحّ ، ومن وقت هو وقت حبس.
ويقال ماء هو صوب الرحمة يزيل به درن العصاة وآثار زلّتهم وأوضار عثرتهم ، وماء هو سقى قلوبهم يزيل به عطش تحيرهم ، ويحيى به موات أحوالهم ؛ فتنبت فى رياض قلوبهم فنون أزهار البسط ، وصنوف أنوار الروح. وماء هو شراب المحبة فيخص به قلوبا بساحات القرب ، فيزيل عنها به حشمة الوصف ، ويسكن به قلوبا فيعطلها عن التمييز ، ويحملها على التجاسر ببذل الرّوح ؛ فإذا شربوا طربوا ، وإذا طربوا لم يبالوا بما وهبوا (١).
قوله جل ذكره : (فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩))
كما يحيى بماء السماء الغياض والرياض ، ويصنّف فيها الأزهار والأنوار ، وتثمر الأشجار وتجرى الأنهار .. فكذلك يسقى القلوب بماء العرفان فتورق وتثمر بعد ما تزهر ، وتؤتى أكلها : من طيب عيش ، وكمال بسط ، ثم وفور هيبة ثم روح أنس ، ونتائج تجلّ ، وعوائد قرب .. إلى ما تتقاصر العبارات عن شرحه ، ولا تطمع الإشارات فى حصره.
قوله جل ذكره : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١))
الإشارات منه أنّ الكدورات الهاجمة لا عبرة بها ، ولا مبالاة ؛ فإنّ اللّبن الخالص السائغ يخرج من أخلاف الأنعام من بين ما تنطوى حواياها عليه من الوحشة ، لكنه صاف لم يؤثر
__________________
(١) حتى لو كان ما وهبوه أرواحهم.