فلا يستزيد. ثم اكتفاء كلّ أحد يختلف فى القلة والكثرة ، وراحة قلوب هؤلاء فى التخلص من الحرص وإرادة الزيادة.
ثم بعد هذا سكون القلب فى حالة عدم وجود الأسباب ، فيكون مجردا عن الشيء ، ويكون فى إرادته متوكلا على الله. وهؤلاء متباينون فى الرتبة ، فواحد يكتفى بوعده لأنه صدقه فى ضمانه ، فيسكن ـ عند فقد الأسباب ـ بقلبه ثقة منه بوعد ربه .. ويسمى هذا توكلا ، ويقال على هذا : إن التوكل سكون القلب بضمان الربّ ، أو سكون الجأش فى طلب المعاش ، أو الاكتفاء بوعده عند عدم نقده ، أو الاكتفاء بالوعد عند فقد النقد.
وألطف من هذا أن يكتفى بعلم أنه يعلم حاله فيشتغل بما أمره الله ؛ ويعمل على طاعته ؛ ولا يراعى إنجاز ما وعده ؛ بل يكل أمره إلى الله .. وهذا هو التسليم.
وفوق هذا التفويض (١) ، وهو أن يكل أمره إلى الله ، ولا يقترح على مولاه بحال ، ولا يختار ؛ ويستوى عنده وجود الأسباب وعدمها ؛ فيشتغل بأداء ما ألزمه الله ؛ ولا يفكر فى حال نفسه ؛ ويعلم أنه مملوك لمولاه ؛ والسيّد أولى بعبده من العبد بنفسه (٢).
فإذا ارتقى عن هذه الحالة ، وجد راحة فى المنع ؛ واستعذب ما يستقبله من الرّدّ .. وتلك هى مرتبة الرضا (٣) ؛ ويحصل له فى هذه الحالة من فوائد الرضا ولطائفه مالا يحصل لمن دونه من الحلاوة فى وجود المقصود.
__________________
(١) الواقع أن القشيري هنا متأثر بالآراء الكثيرة التي أدلى بها الشيوخ فى هذا الموضوع ، وعلى وجه الخصوص بشيخه الدقاق ، الذي يقول : التوكل ثلاث درجات : التوكل ثم التسليم ثم التفويض ؛ فالمتوكل يسكن إلى وعده ، وصاحب التسليم يكتفى بعلمه ، وصاحب التفويض يرضى بحكمه ، ويقول كذلك : التوكل بداية والتسليم واسطة ، والتفويض نهاية. ويقول كذلك : التوكل صفة المؤمنين والتسليم صفة الأولياء والتفويض صفة الموحدين. (الرسالة ص ٨٥).
(٢) يروى فى هذا الباب أن جماعة سألوا الجنيد : أين نطلب الرزق؟
فقال : إن علمتم فى أي موضع هو فاطلبوه. قالوا : فنسأل الله تعالى ذلك.
فقال : إن علمتم أنه ينساكم فذكروه. فقالوا : ندخل البيت فنتوكل؟
فقال : التجربة شك قالوا : فما الحيلة؟
فقال : ترك الحيلة (الرسالة الصفحة ذاتها).
(٣) كذلك ربط السراج فى «لمعه» بين التوكل والرضا بوصفهما مقامين متتاليين فى مقامات الطريق (اللمع ص ٧٩ من أسفل).