الجرس القرآنى
إن طريقة النظم التى اتسقت بها ألفاظ القرآن ، وتألفت لها حروف الألفاظ ، إنما هى طريقة يتوخى بها إلى أنواع من المنطق وصفات من اللهجة لم تكن على هذا الوجه من كلام العرب ، ولكنها ظهرت فيه أول شىء على لسان النبى صلىاللهعليهوسلم ، فجعلت المسامع لا تنبو عن شىء من القرآن ، ولا تلوى من دونه حجاب القلب ، حتى لم يكن لمن يسمعه بدّ من الاسترسال إليه والتوفر على الإصغاء ، لا يستمهلهم أمر من دونه وإن كان أمر العادة ، ولا يستنسئه الشيطان وإن كانت طاعته عندهم عبادة ، فإنه إنما يسمع ضربا خالصا من الموسيقى اللغوية فى انسجامه واطّراز نسقه واتزانه على أجزاء النّفس مقطعا مقطعا ونبرة نبرة كأنها توقعه توقيعا لا تتلوه تلاوة (١).
ويوضح هذا المعنى الدكتور محمد عبد الله دراز فيقول : دع القارئ المجود يقرأ القرآن يرتله حق ترتيله نازلا بنفسه على هوى القرآن ، وليس نازلا بالقرآن على هوى نفسه ، ثم انتبذ منه مكانا قصيا لا تسمع فيه جرس حروفه ، ولكن تسمع حركاتها وسكناتها ، ومداتها وغناتها ، واتصالاتها ، وسكتاتها ، ثم ألق سمعك إلى هذه المجموعة الصوتية وقد جردت تجريدا ، وأرسلت ساذجة فى الهواء فستجد نفسك منها بإزاء لحن غريب عجيب لا تجده فى كلام آخر لو جرّد هذا التجريد ، وجوّد هذا التجويد.
ستجد اتساقا وائتلافا يسترعى من سمعك ما تسترعيه الموسيقى والشعر ، على أنه ليس بأنغام الموسيقى ولا بأوزان الشعر. وستجد شيئا آخر لا تجده فى الموسيقى ولا فى الشعر ، ذلك أنك تسمع القصيدة من الشعر فإذا هى تتحد الأوزان فيها بيتا بيتا ، وشطرا شطرا ، وتسمع القطعة من الموسيقى فإذا هى تتشابه أهواؤها ، وتذهب مذهبا متقاربا ، فلا يلبث سمعك أن يمجها ، وطبعك أن يملها ، إذا أعيدت وكررت عليك بتوقيع واحد. بينما أنت من القرآن أبدا فى لحن متنوع متجدد تنتقل فيه بين أسباب وأوتاد ، وفواصل على أوضاع مختلفة يأخذ منها كل وتر من أوتار قلبك بنصيب سواء. فلا يعروك منه على كثرة ترداده ملالة ولا سأم. بل لا تفتأ تطلب منه المزيد.