ومثال الانتقال من الخطاب للغيبة قوله تعالى :
(حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ ..) (٥).
وللالتفات وظيفة بيانية عامة ووظيفة خاصة. فالعامة هى تلوين الخطاب ، وفائدته تنشيط ذهن السامع ، ودفع الملل عنه ، لأن فى انتقال الحديث من أسلوب إلى أسلوب تجديدا لحركة الذهن ، وترويحا على المشاعر. وهذا عام فى كل صور الالتفات.
وفى ذلك يقول الإمام الزمخشرى :
«وتلك على عادة افتنانهم ـ أى العرب ـ فى الكلام ، وتصرفهم فيه ؛ ولأن الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب ، كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع ، وإيقاظا للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد ، وقد تختص مواقعه بفوائد» (٦).
وقد أشار بقوله : «وقد تختص مواقعه بفوائد» إلى ما تختص به كل صورة من صور الالتفات فوق تطرية الكلام وتلوين الخطاب.
وتطبيق هذه الملامح البيانية التى تشع من كل صورة من صور الالتفات على ما تقدم من سورتى «أم الكتاب» و «يونس» يرينا ما لهذا الفن البلاغى فى القرآن من دور عظيم الشأن فى التأثير على النفوس.
فالانتقال من الغيبة إلى الخطاب فى آيات «الفاتحة» كان عقب ثناء العبد على الله بطريق الغيبة. فهو وحده المستحق للحمد كله.
وهو وحده الرحمن الحق ، والرحيم الحق وهو وحده مالك شئون يوم الدين.
وبعد استحضار هذه الكمالات فى المشاعر ، يقترب العبد من حضرة ربه ، ويقف بين يديه فيخاطب ربه مخاطبة الحاضر ؛ لا مخاطبة الغائب.
أما فى آية «يونس» فإن قوله تعالى :
(حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) أى استقررتم وركبتم فيها. والفلك تركب لتجرى بمن فيها ، فإذا جرت وأسرعت براكبيها فقد غابوا وهى تمخر بهم عباب الماء. فالتفت القرآن من توجيه الخطاب إليهم إلى الحديث عنهم بطريق الغيبة إشارة إلى نعمة جرى السفن بهم.
ومثال الانتقال من الغيبة إلى التكلم قوله تعالى :
(وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ ..) (٧).
فقد جرى الحديث أولا عن الغائب ، ثم التفت من الغيبة إلى التكلم فقال (فَسُقْناهُ).
والداعى البلاغى لهذا الالتفات هو التلويح