(و) أن يأتى فى الآية روايتان صحيحتان :
كل منهما نص فى سبب النزول ، ولا مرجح لإحداهما على الأخرى ، ولا يمكن الجمع بينهما على اعتبار قرب الزمان ، لأن زمانهما متباعد ، وعندئذ يحمل العلماء مثل هذه الصورة على تكرر النزول.
وقد مثل الزركشى لذلك ـ فى البرهان ـ بما ورد فى سبب النزول لقول الله تعالى :
(وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) هود / ١١٤ ، من أنها نزلت ـ كما فى الصحيحين (٦٩) فى رجل أصاب من امرأة قبلة ، فسأل النبى صلىاللهعليهوسلم عن كفارتها ، فنزلت الآية.
قال الزركشى معلقا : «والرجل قد ذكر الترمذى أو غيره (٧٠) أنه أبو اليسر ، وسورة هود مكية باتفاق ، ولهذا أشكل على بعضهم هذا الحديث مع ما ذكرنا ، ولا إشكال لأنها نزلت مرة بعد مرة» (٧١).
والحق أن هذا الإشكال لا يحتم القول بتكرر النزول كما قال الزركشى ، لأن كون السورة مكية لا يمنع أن تكون بعض آياتها مدنية ، لأن الاعتبار فى تصنيف السور إلى مكى ومدنى بالأعم الأغلب ، والقرآن نزل منجما فى مكة والمدينة ، والراجح أن هذه الآية مدنية ، وهذا ما قرره السيوطى رحمهالله ونص عليه فى بيان أن بعض السور التى نزلت بمكة فيها آيات نزلت بالمدينة ، ذكر منها سورة هود ، فقال : «هود : استثنى منها ثلاث آيات : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) قلت :
دليل الثالثة ما صح من عدة طرق أنها نزلت فى المدينة فى حق أبى اليسر» (٧٢).
كما ساق الزركشى مثالا آخر لتكرر النزول فقال : «وكذلك ما ورد فى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) أنها جواب للمشركين بمكة ، وأنها جواب لأهل الكتاب بالمدينة» (٧٣). وعلل لتكرار النزول بقوله : «وقد ينزل الشيء مرتين تعظيما لشأنه ، وتذكيرا به عند حدوث سببه خوف نسيانه ، وهذا كما قيل فى الفاتحة نزلت مرتين : مرة بمكة وأخرى بالمدينة» (٧٤).
وعلى كل ففي القول بتكرار النزول أقوال للعلماء ، ولم يتفقوا جميعا على القول به ، بل منهم من أنكر وقوعه (٧٥).
هذه هى الأوجه التى تتأتى فى تعدد الروايات فى أسباب النزول ، وهذه هى أمثلتها مقرونة بما يتأتى فيها من الجمع بينها ، أو ترجيح بعضها على بعض ، مع بيان دواعى هذا الترجيح.