وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (٣).
والذى يستوقف القارئ المتمعن فى هذه الآيات هو أن منزل الكتاب جلت قدرته حسم القضية فى آية واحدة هى أولى الآيات الثلاث فى إيجاز وإعجاز ، ثم يتبع فى الآية الثانية بقصر الكلام على طلاب الدنيا فى إطار من التوبيخ والوعيد ، وتكمل أولى كلمات الآية الثالثة وصف حال الظالمين بما يشبه الإشفاق ؛ ثم تكون بقية الآية تتويجا لحال من أرادوا حرث الآخرة بأنهم فى روضات الجنات لهم ما يشتهون عند ربهم (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) فشتان ـ فى القول الإلهى ـ بين حال الفريقين : لطلاب حرث الآخرة روضات الجنات ، وللآخرين عذاب عظيم.
ولمن يسلم وجهه إلى الله ، وعن من يكفر ، يقول رب العزة : (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) (٤).
ولا ينبغى لنا ونحن بسبيل العيش فى رحاب كلام الله ألا نشير إلى أن هنا خطابا من العزيز الحميد موجها إلى حبيبه ورسوله يخفف عنه بعض ما يمكن أن يكون قد لحقه من حزن ألمّ به لإصرار بعض أهل الكتاب على شركهم ، يجادلون فى توحيد الله وصفاته بغير علم أو برهان. إنّ أحد أكابر المفسرين (القرطبى) قال : إن الآية نزلت فى يهودى جاء إلى النبى صلىاللهعليهوسلم فقال : يا محمد ، أخبرنى عن ربك من أى شىء هو؟ فجاءت صاعقة فأخذته (٥). وهنا ينبغى أن نذكر أن الآيتين موضع الاستشهاد مسبوقتان بآيتين كاشفتين هما قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ). (٦)
ومن السنن الحسنة والسيئة التى مثل الله لها فى آيتين متجاورتين الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة ، فالأولى دالة على الخير والإيمان ، والثانية دالة على الخبث والكفران ، وفى ذلك يقول الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦) يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ