إسناد القرآن آثار هذه الأشياء إلى نفسها ، فإنّما ينكره باللسان وقلبه معتقد بخلافه ، وقد ذكرنا نزراً يسيراً من هذه الآيات ، خصوصاً ما يرجع منها إلى نزول المطر من السماء إلى الأرض ، فلا يصحّ لأحد أن ينكر دور تفاعلات المادة وانفعالاتها في الجو في نزوله. هذا من جانب.
ومن جانب آخر ، إنّ القرآن يسند إلى الإنسان أفعالاً لا تقوم إلاّ به ، ولا يصحّ إسناده إلى الله سبحانه بلا واسطة ، وبلا مباشرة الإنسان ، كأكله وشربه ومشيه وقعوده ونموه وفهمه ، وشعوره وسروره. فهذه أفعال قائمة بالإنسان مستندة إليه ، فهو الذي يأكل ويشرب ، وينمو ويفهم.
ومن جانب ثالث : إنّ الله سبحانه يأمره أمر إلزام ، وينهاه نهي تحريم ، فيجزيه بالطاعة ، ويعاقبه بالمعصية ، فلولا أنّ للإنسان دوراً في ذلك المجال وتأثيراً في الطاعة والعصيان ، فما هي الغاية من الأمر والنهي ، وما معنى الجزاء والعقوبة ؛ !
فهذه الآيات إذا قورنت إلى قوله سبحانه : (قُلِ الله خالِقُ كُلّ شَيْء وَهُوَ الْواحِدُ القَهّار) (١) الذي يدلّ على بسط فاعليته وعلّيته على كلّ شيء ، يستنتج منه أنّ النظام الإمكاني على اختلاف هوياته وأنواعه ، فعّال بأفعاله ، مؤثر في آثاره بتنفيذ من الله سبحانه ، وتقدير منه ، وهو القائل سبحانه : (الّذي أَعْطى كُلّ شَيْء خَلَقَهُ ثُمَّ هَدى ) (٢) وقال تعالى : (وَالّذِي قَدَّرَ فَهَدى) (٣) وفي الوقت نفسه تنتهي وجودات هذه الأشياء وأعمالها وآثارها وحركاتها وسكناتها إلى قضائه وتقديره وهدايته.
فعلى هذا ، فالأشياء في جواهرها وذواتها ، وحدود وجودها وخصوصياتها تنتهي إلى الخلقة الإلهية ، كما أنّ أفعالها التي تصدر عنها في ظل الخصوصيات ، تنتهي إليه أيضاً ، وليس العالم ومجموع الكون إلاّ مجموعة متوحدة يتصل بعضها ببعض ، ويتلاءم بعضها مع بعض ، ويؤثر بعضها في بعض ، والله سبحانه وراء
ــــــــــــــــــ
١ ـ الرعد : ١٦.
٢ ـ طه : ٥٠.
٣ ـ الأعلى : ٣.