أحسنه. وأن لا يخوض في فن حتى يستوفي الفن الذي قبله ، فإن العلوم مرتبة ترتيبا ضروريا ، وبعضها طريق إلى بعض. والموفق من راعى ذلك الترتيب والتدريج» (٣٧)
وقال العلامة ابن خلدون :
«اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيدا إذا كان على التدريج شيئا فشيئا وقليلا قليلا : يلقى عليه أولا مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال ، ويراعي في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه ، حتى ينتهي إلى آخر الفن ؛ وعند ذلك تحصل له ملكة في ذلك العلم إلا إنها جزئية وضعيفة ، وغايتها أنها هيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله. ثم يرجع به إلى الفن ثانية ، فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها ، ويستوفي الشرح والبيان ، ويخرج عن الإجمال ، ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفن ؛ فتجود ملكته. ثم يرجع به وقد شذا فلا يترك عويصا ولا مهما ولا مغلقا إلا وضحه وفتح له مقفله ، فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته.
وهذا وجه التعليم المفيد ، وهو ـ كما رأيت ـ إنما يحصل في ثلاث تكرارات. وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له ويتيسر عليه» (٣٨).
وعلل ذلك بقوله :
فإن قبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجيا. ويكون المتعلم أول الأمر عاجزا عن الفهم بالجملة إلا في الأقل وعلى سبيل التقريب والإجمال وبالأمثال الحسية. ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرج قليلا قليلا بمخالفة مسائل ذلك الفن وتكرارها عليه ، والانتقال فيها من التقريب إلى الاستيعاب الذي فوقه ، حتى تتم الملكة في الاستعداد ثم في التحصيل ، ويحيط هو بمسائل الفن.
وإذا ألقيت عليه الغايات في البدايات ، وهو حينئذ عاجز عن الفهم والوعي ، وبعيد عن الاستعداد له ، كل ذهنه عنها ، وحسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه ، فتكاسل عنه وانحرف عن قبوله ، وتمادى في هجرانه. وإنما أتى ذلك من سوء التعليم (٣٩).
وبعد ذلك أوضح الكاتب الإنكليزي" هربارت سبنسر" الذي كتب في التربية في القرن التاسع عشر أن التعلم يجب أن يسير من البسيط إلى المركب ، ومن الحسي إلى المعنوي ، ومن العملي إلى النظري ، وأن التربية يجب أن تكون سارة (٤٠).