وقد ذم الله المعطلين عقولهم وحواسه ، وشبههم بالحيونات التي حرمت العقل ، وجعل جهنم جزاء لهم : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا (٥١) لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ). (٥٢)
فتعطيل العقل والحواس يحرم الإنسان من العلم الذي استحق به التكريم ، ويجعله يتخبط في الظلمات لا يهتدي إلى الحق ، ولا يستجيب لمن يدعوه إلى الإيمان.
قال تعالى :
(وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ). (٥٣)
ويكونون بذلك شر الدواب وأرذل المخلوقات :
(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ). (٥٤)
ولقد أرشدت هذه الآيات المسلمين إلى المنهج العلمي التجريبي الذي كان له أثر كبير في تقدم الحضارة ورقي البشرية. إذ كان الفلاسفة من قبل يتناقلون أكداسا من المعارف ، لا يستطيعون أن يفرقوا بين غثها وسمينها ، ولا أن يميزوا بين حقائقها وأوهامها.
فلما تلقى المسلمون هذه الآيات استنبطوا منها هذا المنهج في كشف العلم واكتساب المعرفة ، ثم اطلعوا على علوم الأقدمين ، وأخضعوها للبحث والتجربة ، وفصلوا بين صوابها وخطئها ، وانطلقوا يلاحظون ويجربون ، ويضعون قوانين العلوم وقواعد الحضارة ، حتى كانت تلك النهضة الرائعة التي لم تعرف لها البشرية مثيلا من قبل.
ولم تشهد أوربا نهضتها المعاصرة إلا بعد أن اطلعت على علوم المسلمين ، وأخذت منهجهم في العلم والمعرفة ، وسارت على طريقهم في البحث والتجربة. لكنها لم تتمكن من السير على الطريق الذي خطه القرآن الكريم إلا بعد ضلال بعيد وتخبط أعمى. فبعد أن كان سقراط في القرن الخامس قبل الميلاد يعتقد أن المعرفة موجودة لدى كل إنسان ، ولكنها في حاجة إلى أن تولد وتستنبط (٥٥) نادى أصحاب الحركة الواقعية الحسية في القرن السابع عشر بأن المعرفة تأتي أولا عن طريق الحواس ، وأن التربية يجب أن تؤسس على الإدراك الحسي أكثر مما تبنى على نشاط الذاكرة (٥٦) وأصبح طريق الملاحظة والبحث والتجربة هو الطريق الوحيد للوصول إلى المعرفة (٥٦).