ولعل رابليه (١٤٨٣ ـ ١٥٥٣ م) أول المربين الذين جعلوا للعلوم المكان الأول بين جميع الدراسات الجديرة بالإنسان ، بعد أن أهمل العصر الوسيط دراسة الطبيعة. وكان فن الملاحظة يجهله أولئك الجدليون الذين لم يكونوا يريدون معرفة عالم الطبيعة إلا من خلال نظريات" أرسطو" ولم يكونوا يقيمون أي وزن لدراسة العالم المادي الذي هو دار فناء تحتقرها النفوس الخالدة (٥٧).
ويرى" كومنيوس" أن المعرفة تأتي من ثلاثة طرق : الحواس والعقل والوحي الإلهي. وأن الخطأ يمتنع إذا راعينا التوازن بينها جميعا (٥٨) وقد ضاهى المربين المحدثين في اهتمامه بالمشاهدة وملاحظة الأشياء الحسية واعتبارها التمرين الفكري الأول ، ومما يقوله في هذا :
(لم لا نفتح بدلا من الكتب الميتة كتاب الطبيعة الحي؟ إن تدريس الشبيبة لا يعني أن نطبع في ذهنهم حشدا من الألفاظ والجمل والأحكام والآراء التي نلتقطها من الكتب ، وإنما يعني أن نفتح ذكاءهم عن طريق الأشياء ، إن أساس كل علم هو أن نحسن اطلاع حواسنا على الأشياء المحسوسة كما يسهل فهمهما. بل إني لأرى أن هذا المبدأ هو مبدأ كل الأعمال الأخرى ، إذ لا نستطيع العمل والكلام بسداد وحكمة ما لم نفهم جيدا ما نريد أن نعمل أو نقول. ومن الثابت أن لا شيء في العقل لم يكن من قبل في الحس ؛ الأمر الذي يجعلنا نضع بحق أساس كل حكمة وكل بلاغة وكل عمل رشيد طيب ، حين ندرب الحواس بعناية على أن تدرك جيدا الفروق بين الأشياء الطبيعية ولما كانت هذه الناحية على فرط أهميتها مهملة عادة في مدارسنا اليوم ، ولما كان المعلمون يذكرون للطلاب أشياء لا يفهمونها أبدا ، لأن حواسهم لم تتمثلها ، وخيالهم لم يتصورها ، رأينا النصب في التعليم من جهة ، والمشقة في التعلم من جهة ثانية ، يسيطران ويورثان الضيق ، ولا ينتجان إلا ثمرات قليلة .. ينبغي ألا نقدم للشبيبة ظلال الأشياء وأشباحها ، بل علينا أن نقدم لهم الأشياء نفسها التي تحدث أثرا في الحواس والخيال وتنطبع فيها. ينبغي أن تبتدئ الثقافة بالملاحظة للأشياء لا بالوصف اللفظي لها) (٥٩)
وكذلك أنكر هربارت فكرة اشتمال النفس على قدرات عقلية فطرية ، وبين أنها ترتبط بالعالم الخارجي أو بالبيئة عن طريق الجهاز العصبي ، وبهذا الاتصال يتزود العقل بمبادئه ومعلوماته الأولية ، وذلك بطريق الإدراك الحسي ؛ وعن هذا الطريق تتكون الحياة العقلية للطفل. وتفاعل هذه الظواهر يؤدي إلى المدركات العقلية