وذهب القاضي أبو بكر بن العربي إلى تقديم تعليم العربية والشعر على سائر العلوم ، لأن الشعر ديوان العرب ، ثم ينتقل منه إلى الحساب فيتمرن فيه حتى يرى القوانين. ثم ينتقل إلى درس القرآن فإنه متيسر له بهذه المقدمة.
ووجه تقديم دراسة القرآن كما قال ابن خلدون" إيثار التبرك والثواب ، وخشية ما يعرض للولد في جنون الصبا من الآفات والقواطع عن العلم ؛ فيفوته القرآن. لأنه ما دام في الحجر منقاد للحكم. فإذا تجاوز البلوغ ، وانحل من ربقة القهر ، فربما عصفت به رياح الشبيبة ، فألقته بساحل البطالة. فيغتنمون في زمان الحجر وربقة الحكم تحصيل القرآن ، لئلا يذهب خلوا منه. ولو حصل التيقن باستمراره في طلب العلم وقبوله التعليم لكان المذهب الذي ذكره القاضي أولى.
ويرى ابن خلدون أن تعليم الصنائع والكتابة والحساب ينمي العقل ، ومن قوله : «والملكات الصناعية تفيد عقلا. والكتابة من بين الصنائع أكثر إفادة لذلك ، فإنها تشتمل على العلوم والأنظار بخلاف الصنائع. وبيانه أن في الكتابة انتقالا من الحروف الخطية إلى الكلمات اللفظية في الخيال ، ومن الكلمات اللفظية في الخيال إلى المعاني التي في النفس .. فيحصل لها ملكة الانتقال من الأدلة إلى المدلولات ، وهو معنى النظر العقلي الذي يكسب العلوم المجهولة ، فيكسب ذلك ملكة من التعقل ، تكون زيادة عقل ويحصل به قوة فطنة وكيس في الأمور لما تعوده من ذلك الانتقال. ويلحق بذلك الحساب ، فإن في صناعة الحساب نوع تصرف في العدد بالضم والتفريق يحتاج فيه إلى استدلال كثير ، فيبقى متعودا للاستدلال والنظر. وهو معنى العقل. والله أعلم (٢١). وفي هذه المرحلة يتعلم التلاميذ مبادئ الرياضيات والعلوم والجغرافية والتاريخ وغيرها. وينبغي أن يكون ما يتعلمونه متناسبا مع قدراتهم وميولهم ومع بيئتهم وواقعهم ، وذا أثر في نموهم الجسمي والعقلي والوجداني وصقل مواهبهم.
ولا يجوز أن توضع المناهج المدرسية جزافا ، وأن يوكل وضعها وتغييرها إلى غير الأكفاء. فمثل هذه المناهج قد تعرقل نمو الطلاب ، وتنفرهم من المدرسة ، وتكون حجر عثرة في طريق الرقي. ولكن يجب أن يعهد بوضعها إلى مربين حكماء وباحثين مخلصين ، يقيسون ذكاء الطلاب في كل مرحلة من مراحل الدراسة ، ويتعرفون على قدراتهم وميولهم واهتماماتهم ، ويصنفونهم على مستويات مختلفة ، ويضعون لكل صنف ما يناسبه ، فيراعون الفروق الفردية ويجعلون مناهجهم شاملة للناحيتين النظرية والعملية ، وللجوانب الجسمية والعقلية والنفسية والروحية ، ومناسبة للمجتمع والبيئة ويسعون لتكوين علماء عاملين وأتقياء مخلصين.