والأثقال وغير ذلك من الطرق الأخرى التي تؤدي إلى التقليل من ملاذ الحياة أو القضاء على رغبات الإنسان الطبيعية ، أو التي يتسبب عنها الآلام لعدم العناية بتلك المطالب عناية كافية. وقد يودي هذا الأسلوب من أساليب الحياة بالقوى العقلية ، أو يؤدي إلى إضعافها. وفي كثير من الأحيان قد ينتهي بالراهب إلى الشذوذ العقلي ، أو يجعله نهبا للأحلام الشاذة (٢٢).
وهكذا غدت التربية المسيحية نظاما قاسيا يهيء لحياة مقبلة ، تنظر إلى كل ما يتصل بأمور هذه الحياة الدنيا نظرة احتقار وازدراء ، وإلى كل ما ينتسب إلى هذا العالم نظرها إلى شر كبير. وتعد كل عناية بنمو الشخصية الفردية ويتعهد الغرض البديعي أو النشاط الفكري خطيئة كبيرة. وكان المسيحي منفصلا عن العالم الإنساني ليدخل في ملكوت الله وكان عليه أن يعزف عن عالم فاسد مليء بالشرور ، وأن يتعهد نفسه بالحرمان والانصراف عن كل لذة (٢٣)
وميزة الوسطية والاعتدال أهلت الأمة الإسلامية لتولي قيادة البشرية وتوجيهها نحو الخير والهدى. قال الله تعالى :
(وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً). (٢٤)
٤ ـ الواقعية والمثالية :
لا ينكر هذا المنهج واقع الإنسان وبيئته ، ولا ما جبل عليه من ضعف ونقص ، ولا ما وضع فيه من غرائز وشهوات ، ولا ما يريد الحصول عليه من ملذات ومسرات. وهو إذ يعترف بواقعه البشري وبكيانه الجسمي والنفسي وبحاجاته المادية والمعنوية ، لم يتركه ملتصقا بالأرض وإنما حلق به في جو السماء ، ولم يدعه يتمرغ في الطين ، وإنما جعله يتضمخ بالطيب ، ولم يمنعه من اللذات والشهوات ، وإنما وفر له كل متعة جسمية وعقلية وروحية. ولم يفعل به ذلك قسرا ، ولم يفرض عليه ذلك فرضا. بحيث يرى نفسه مكلفا بما لا يستطيعه ، ومأمورا بما لا يقدر عليه ، مما يجعله لا يستقر على القمة التي رفع إليها ، بل ينتكص على عقبيه ، ويهوي إلى الحضيض ، ولكنه أخذ بيده برفق ، وسار به خطوات وئيدة ، وجعله يرفرف بجناحيه ، ويحلق شيئا فشيئا ، حتى يبلغ أعلى الدرجات ، ويسمو إلى أرفع المقامات ، وجعله رافع الرأس ، يتقدم نحو الأمام ، ويرتفع إلى الأعلى حتى تنتهي رحلة الحياة ، فيستقر في عليين.