بعد العقل المنفعل الهيولانىّ. والّذي ناله بعد القوّة هو عقل بالفعل على سبيل الاستكمال. فإذن ، ما أيسر لك أن تستيقن أنّ الجوهر المفارق الذّات مدرك ذاته ، وإدراكه ذاته ليس يزيد على وجوده ، وإنّما يزيد على ماهيّته ، إذ ليست ماهيته هي بعينها إنّه.
وأمّا الموجود الحقّ المتقدّس عن الماهيّة ، فضلا عن الموادّ والعهد وسائر ما يجعل الماهيّة بحال زائدة ، فهو ظاهر لذاته وبنفس ذاته. وإذ [٩٢ ظ] إنّه بعينه حقيقته ، أى : وجوده ماهيّته ، وهو على أعلى مراتب التجرّد والتقدّس ، فعلمه بذاته كما ليس يزيد على وجوده فكذلك ليس يزيد على نفس حقيقته ، وهو أكمل العلوم وأشدّها نوريّة وتقدّسا.
تنبيه
(٥٦ ـ الشّيء العاقل المجرد معقول نفسه وعقل ذاته)
إنّ الشّيء إذا ما جرّده العقل تجريدا تامّا صارت صورته المجرّدة القائمة في محلّها المفارق معقول المحلّ وعلمه. فما ظنّك به إذا تجرّد بنفسه وقام بذاته ، أينسلخ عن شأن المعقوليّة أم يصير معقول نفسه وعقل ذاته.
فتفكّر : أنّ الحرارة الّتي بها حارّيّة النار ما دامت قائمة فيها إذا تجرّدت وقامت بنفسها ، أتتعرّى عن كونها حرارة ، أم تكون حارّة بنفسها وحرارة لذاتها؟ والضّوء الناعت للشمس إذا ما تذوّت وقام بذاته أيهجر حقيقته الضوئيّة ، أم يستوى ذاته ويتمحّض ضوء لذاته ومضيئا بنفسه؟ ثمّ اعتبر من ذلك وتدبّر في أمرك.
تقديس
(٥٧ ـ العلم والكمالات عين الحقيقة الحقّة)
ثمّ أما أسمعناك ، من قبل ، أنّ العلم «كمال مطلق» للتقرّر والوجود بما هو تقرّر ووجود ، وما هو كذلك لا يمتنع على نفس ذات الموجود الحقّ بذاته. وكلّ ما ليس يمتنع عليه ، فإنّه يجب لذاته في نفس مرتبة الحقيقة ، إذ لا تصحّ في الوجود الرّبوبىّ جهة جوازيّة بحسب مرتبة نفس الحقيقة ، بل الجواز العامّ هناك وجوب صرف ، لا غير.
فإذن ، قد وجب أن يكون العلم ، وكذلك الكمالات الّتي هي مضاهيته ، عين الحقيقة الحقّة الواجبيّة ، [٩٢ ب] وإنّما نروم ب «الكمال المطلق» : ما كماليّته على