أليس أنه إذا تسرمد بعض المجعولات دون بعض ، كان للجاعل الحقّ إفاضة ذاك ، إذ ليست له إفاضة ذا ، وإلّا فقد تخلّف المفاض عن الإفاضة ، ثمّ قد لحقته إفاضة ذا أيضا. (١) فإذن تجتمع فيه إفاضتان متقرّرتان على السّبق واللّحوق ، فيكون تقرّر الإفاضة على التّسابق والتّلاحق ، فيلزم انفصام تلك الأحكام ، بل انهدامها [١١ ب] بالمرّة ف (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (آل عمران ، ٧١).
تنبيه
(١٦ ـ الزّمانيّ دهريّ ولا عكس)
__________________
(١) قوله : «ثمّ قد لحقته إفاضة ذا أيضا». أى : كما كانت إفاضة ذاك وحدها حاصلة له أولا ، فقد حصلت له إفاضة ذا أيضا أخيرا. فالإفاضتان المجتمعتان أخيرا محكوم عليهما بالسبق واللّحوق بحسب الواقع ، فيكون حصول الإفاضة له وتقرّرها فيه على سبيل التسابق والتلاحق بحسب الواقع. وهى من الصفات الثبوتية المتقررة في ذات الموصوف. فإذن يلزم تجدّد وتلاحق في صفاته الثبوتية المتقررة فيه ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوّا كبيرا.
فإن اوهم : أنّه على تقدير استيعاب الحدوث الدّهرىّ لجملة المعلولات أيضا يحصل له إفاضة الجميع بعد أن لم تكن حاصلة له ، فلا محيص عن التجدّد أصلا.
ازيح : أوّلا ، بأنّ السلب حقيقته الانتفاء لا شيء يعبّر عنه بالانتفاء ، فليس سلب الإفاضة هناك شيئا يعتبر تجدّد الإفاضة ولحوقها بعده.
وثانيا ، بأنّ سلب شيء عن شيء يفتقر إلى ثبوت مسلوب ومسلوب عنه يتقدمانه ، وليس يكفى فيه ثبوت المسلوب عنه فقط. وكذلك إضافة شيء إلى شيء واتّصاف شيء بشيء فهذه أمور لا تتحقّق عند وجود شيء واحد لا غير ، بل يستدعى وجود أشياء فوق واحد يتقدمها. وسيتلى عليك في مسألة : «الواحد لا يصدر عنه إلّا الواحد» إن شاء الله تعالى. فإذ كان الجاعل الحقّ سبحانه موجودا لا غير لم يتحقق سلب شيء عنه أصلا. ثمّ إنه جعل جملة المجعولات وأفاضها في وعاء الدّهر مرة واحدة دهرية. فصدق عقد الوجود عليها جملة بالإطلاق العام الدّهرى. فأين هناك وضعان يحكم عليهما بالسبق واللحوق ، وعلى القدر المشترك بينهما بالحصول على التسابق والتلاحق. وذلك هو الذي يعتبر عنه عندهم بالتغيّر والتبدّل.
وثالثا ، بأنّ وجود المجعولات قاطبة على ذلك التقدير يقع في وعاء الدّهر بدلا عن العدم المطلق وفي حيّزه ، لا في حدّ متأخر عن حدّه ، على ما قد تعرفت سالفا. فحينئذ مع صدق الحكم بالإفاضة ليس يبقى الحكم بالإفاضة أصلا ولا بالإطلاق العامّ حتى يتصوّر هناك تجدّد وتلاحق ، ولا كذلك تسرمد بعض المجعولات دون بعض ، فإنّه يستوجب أن يكون تقرر الإفاضة في ذات المفيض الحقّ ، وهى من صفاته الثبوتية المتقررة فيه على سبيل التجدد والتلاحق بتّة ، وهو خلف محال وفاقا.
وبالجملة ، الفرق بين صورتى استيعاب الحدوث الدّهرىّ لجملة الجائزات واختصاصه بالبعض قد استبان سبيله غير مرّة. وانما الذي قد بقى للوهم عليه سلطان هو أن يسأل : أنّه لم لم يفض المجعولات على السّرمدية. فيجاب : بأنّ ذلك ليس من تلقاء الجاعل ، بل إنه من نقصان ماهيّة المجعول ، وسينكشف عليك من ذي قبل ان شاء الله تعالى (منه دام ظله).