بعينه كالحديد قوّة وقدرة بالفعل على تحريك كلّ من شخصيّاتها المعيّنة بحسب موادّها الشّخصيّة. فأمّا المتكلّفون الحاسبون أنّها عقل لا بالفعل ، بل بالقوّة القريبة من الفعل ، فغير مميّزين بينها بالنسبة إلى تفاصيلها وبين العلم بالأصل ، ك «كلّ إنسان حيوان» ، بالنسبة إلى الفروع ، ك «زيد حيوان» و «عمرو حيوان».
فالعقل الإجمالىّ كأنه بعينه هو جملة تلك العقول التفصيليّة في وحدة. وليس في وسع النفس ما دامت في أرض الغربة ودار الجسد ، مكسوّة كسوة الحسّ مسحورة سحر الطّبيعة ، أن تعقل التفاصيل والكثرانيّات دفعة واحدة. فتعقّلاتها التفصيليّة ما دام لبثها في افق التقضّى والتّجدّد نفسانيّة على سبيل الانتقال من معقول إلى معقول ، على التّدريج ، والتّرتيب.
نعم كلما كانت أوفر طسقا من رفض ظلمة الجسد ، وأكثر تحرّزا من شرّ سحر الطبيعة ، وأصدق تأسّيا وتشبّها بالعقول الفعّالة ، كان عقلها الإجمالىّ أحقّ فعليّة وأشدّ بساطة وأقوى فعاليّة للمراتب التفصيليّة وارتباطا بها. فكان ، لا محالة ، أشبه بعلوم العقول الّتي هي فيوض العلم الحقّ وظلاله. وأيها أيها لها مع تجرّدها وسبوغها أن تشبهه تماميّة وتقدّسا.
تقديس
(٦٧ ـ العلم البسيط الحقّ ابلغ العلوم تجردا)
فإذن ، قد استبان أنّ العلم البسيط الحقّ بالموجودات الّذي هو نفس ذات فاعلها القيّوم أبلغ العلوم تجرّدا وأقدسها بساطة وأتمّها خلّاقيّة للعلوم التّفصيليّة الّتي هي بعده. وهي ذوات الأشياء الصادرة عنه بطبائعها وهويّاتها ، وأنّ علمه ، جلّ ذكره ، بالتّفاصيل [٩٩ ب] ليس كالعلوم النّفسانيّة ، بل إنّه بقضّها وقضيضها ، أزلا وأبدا ، على شأن واحد وسنّة غير متبدّلة ، وإنّما عقله للشىء على أنّه عنه ، أى : على أن هو مبدأ فاعليّ له ، ويعقل غيره على أنّه فيه ، أى : على أن هو مبدأ قابلىّ. وبالجملة ، كما وجوده الّذي هو ذاته مباين لوجودات الموجودات ، فكذلك علمه مباين لعلوم الموجودات العاقلة ، وعلى هذه السّنّة جميع شئونه ، فهو لا يقاس بشيء ممّا سواه في حال من أحواله ، والعقول الخالصة القادسة في سبيل إدراكه دهشة حائرة.