وقد تحقّقت : أنّ قيّوم الكلّ إنّما يفعل الكلّ عن علم هو نفس ذاته العليم الّذي هو أتمّ العلوم بكلّ معلوم معقول أو محسوس. فإذن ، هو ، سبحانه ، فاعل بالإرادة والاختيار بتّة ، فإنّه يعلم ذاته ، وإنه بنفس حقيقته ، ينبوع كلّ تقرّر ووجود وكلّ كمال تقرّر وجود ، وذاته حقيقة محضة من كلّ جهة. فلا يوصف إلّا بالخيريّة المطلقة ، لا على أن هي وصف له بعد مرتبة الذّات ، بل على أن ذاته نفس الخيريّة المحضة. فذاته بذاته مفيض الخير وجاعل النظام الفاضل على الإطلاق.
فإذ يعلم من ذاته كيفيّة الخير في الكلّ ، فيتبع ذاته ومعقوليّة ذاته فيضان الموجودات عنه على النظام المعقول عنده من معقوليّة ذاته. لا على أن يتبعه ذلك اتّباع الضّوء للمضيء والإسخان للحارّ ، تعالى عنه عزّه ، بل على أنّه عالم بكيفيّة نظام الخير في الوجود ، وأنّه فائض عنه ، وعالم بأنّ هذه العالميّة يفيض عنها الوجود على التّرتيب الّذي يعقله خيرا ونظاما فاضلا. وفيضان الخير والفضل عنه غير مناف لذاته ، بل إنّه مناسب لجنابه ، إذ هو تابع خيريّة ذاته ومقتضى جوده التامّ الذي هو نفس ذاته. فإذن ، مجعولاته مرادة له ، ونظامها الصادر عنه مرضىّ لذاته. وليس أنّه يعلمها ثمّ يرضى بها ، بل إنّ نفس علمه بنظامها الجملىّ الفاضل نفس رضاه بها ، وذاته [الحقّ] بخيريّته الحقّة وحقيقته المحضة هو الّذي دعاه إلى اختيارها.
فإذن ، كما قد أسمعناك (١) أنّ : «إنّه عاقل وإنه معقول» ، فيه واحد ، فكذلك نتلو على سمعك أنّ : «إنه مريد وإنه عالم» ، هناك واحد ، وأنّ إرادته للكلّ عين علمه بنظام الخير الأكمل الأصلح ، وهو بعينه داعيه إلى اختيار الجعل وإيثار الإفاضة ، وهو [١١٦ ظ] نفس ذاته الحقّ المستحقّ بحسب نفس ذاته ووجوده لتلك الأسماء المقولة على الذّوات الجائزة بحسب جهات متكثّرة وحيثيّات مختلفة.
تقديس
(٨٦ ـ القيّوم المفيض للمجعولات يعلمها ويوحى بها من غير طلب وشوق)
إنّ شاكلتنا في ما هممنا بفعله وصنعه إنّما نتصوّره ، فنتعرّف تعرّفا ظنّيّا أو تخيّليّا أو
__________________
(١) أى : إنّ قولنا : «إنّه عاقل الخ» ، فليس فيه اجتماع أنّ وإنّ. على أنّ الممتنع دخول إنّ بالكسر على أنّ بالفتح. فلا يقال مثلا : «إنّ أنّ زيدا منطلق». منه ، دام ظلّه.