الفاعليّة حكموا بكون العالم الّذي هو فعله أزليّا (١٠٩) ، وذلك فى علومهم الإلهيّة. ولم يذهبوا أيضا إلى أنّه ، تعالى ليس بقادر مختار ـ حاشاهم عن ذلك الظنّ القبيح والقول الفضيح والكفر الصّريح ـ بل إنّما ذهبوا إلى أنّ قدرته واختياره لا يوجبان كثرة فى ذاته الواحد الأحد الحقّ ، وأنّ فاعليّته ليست كفاعليّة المختارين من الحيوانات ، فضلا عن كونها كفاعليّة المجبورين من ذوى الطّبائع الجسمانيّة.
وقد بلغوا فى وصفهم وحدة البارئ الأوّل وقدرته وإرادته المبلغ الأقصى والدّرجة القصوى ، لكنّهم زاغوا عن الحقّ فى إشراكهم بربّهم بعض مصنوعاته فى القدم السّرمديّ ولم يجعلوا فى إزائه الحدوث الدّهرىّ ولم يميّزوا الأزليّة السّرمديّة عن الأزليّة الزّمانيّة ، ولم يتحققوا أنّ طباع الإمكان يأبى إلاّ الحدوث الدّهرىّ.
فلذلك كانت الحقائق الجوازيّة والذّوات الإمكانيّة مسبوقة بالبطلان فى وعاء الدّهر ، مع أنّ فاعلها أزليّ سرمدىّ تامّ فى الفاعليّة. فالقصور من جوهر القابل ، لا من تلقاء الفاعل. والنّقص طباع الإمكان والكمال ذاتيّ الوجوب. فهناك يمتحق ما تمثّلوا به ، فقالوا : ليس الشّعاع من الشّمس وليس الشّمس من الشّعاع ، وإن دام بدوامها.
فلا تتعجّب من كون الحقّ قائما بالقسط ، وما يضرّ الشّمس دوام شعاعها وبقاء ذرّات فى نورها؟ وهذه الحقائق مضمون عنها بالتّبيان من قبلنا فى مستقبل القول إن شاء اللّه تعالى.
<٢٥> ذيل
للاغترار بتلك الظنون الفاسدة أقدم مثير فتنة التّشكيك على أنّ التّحقيق أنّ الخلاف هاهنا بين الفلاسفة والمتكلمين لفظيّ ، لأنّ المتكلّمين جوّزوا أن يكون العالم على تقدير كونه أزليّا معلولا لعلّة أزليّة ؛ لكنّهم نفوا القول بالعلّة والمعلول ، لا بهذا الدّليل ، بل بما دلّ على وجوب كون المؤثّر فى وجود العالم قادرا. وأمّا الفلاسفة فقد اتفقوا على أنّ الأزلىّ يستحيل أن يكون فعلا لفاعل مختار. فإذن ، حصل الاتّفاق على أن كون الشيء أزليّا ينافى افتقاره إلى القادر المختار ولا ينافى