يحاول الانتصار لرؤساء الفلسفة وإن كانت المشاحّة فى إطلاق اللّفظ بعد تصحيح ما يعنى به خبيئة ؛ فإنّ التّقدّم بالزّمان أشدّ بعادا عن التّقدّم بالدّهر من أن يتكلّف أن يجمعهما طباع واحد ، فضلا عن طباع التّقدّم الزّمانىّ.
أما انصرح لك : أنّ التّقدّم بالزّمان بما هو تقدّم بالزّمان إنّما يجب بحسبه أن لا يجامع المتأخّر المتقدّم فى افق الزّمان فقط ، لا فى وعاء الدّهر أيضا. فالمتأخّر بالزّمان إنّما يلزم من حيث هو متأخّر بالزّمان أن يكون متخلّفا عمّا يتقدّم عليه بالزّمان فى افق الزّمان فقط ، لا أن يكون متخلّفا عنه بحسب الوجود فى الواقع والحصول فى وعاء الدّهر ؛ إذ التأخّر والافتراق فى افق الزّمان ليس يستلزم التّأخّر والافتراق فى وعاء الدّهر. وأيضا لا يلزمه من حيث هو متأخّر بالزّمان أن يكون متخلّفا فى الوجود عمّن يتعالى عن افق الزّمان ويحيط بجميع الأزمنة وبقاطبة الامور الواقعة فيها مرّة واحدة دهريّة ، بل إنّما يلزمه التّخلّف عنه فى الوجود بحسب التّأخّر عنه تأخّرا بالدّهر ، لا بما هو متأخّر بالزّمان عن زمانى ما.
ثمّ التّقدّم والتأخّر بالزّمان قد يقع فيهما الأشدّ والأضعف أو الأزيد والأنقص. فعيسى ، مثلا ، أشدّ تأخّرا بالزّمان بالنّسبة إلى نوح ، من موسى ـ على نبيّنا وعليهم الصّلاة والسّلام ـ ولا يتصوّر وقوع ذلك فى التقدّم والتأخّر بالدّهر ؛ فإنّ كافّة المتأخّرات بالدّهر فى حكم متأخّر واحد بتأخّر واحد دهرىّ. وإنّما يتكثّر ذلك التّأخّر بالإضافة إلى تلك الموضوعات المتكثّرة ، وهى قد صارت عن الجاعل فى وعاء الدّهر معا معيّة دهريّة.
وأيضا التّقدّم بالزّمان يكون لموضوعات غير محصورة ، والتقدّم بالدّهر لا يكون إلاّ للواحد الحقّ ـ سبحانه ـ إلى غير ذلك من الخواصّ واللّوازم المتحالفة. فهل يستحيل ذو قريحة ملكوتيّة أن يؤخذ التقدّم الزّمانىّ بحيث يندرج التقدّم بالدّهر تحته.
والفلاسفة المتهوّشون بتسرمد التقرّر للمعلولات الإبداعيّة فى وعاء الدّهر يستنكرون الاختلاف فى الخاصيّة الأخيرة ، فعندهم التّقدّم السّرمديّ للبارئ الحقّ ـ سبحانه ـ ولجميع مبدعاته معا ، والتأخّر الدّهرىّ لكافّة الكائنات المسبوقة بالمدّة