طابخة للفلسفة ولقريحته ضوءة منضجة للحكمة.
فقد استبان لاولى البراعة فى العلم أنّ معقوليّة الشّيء هى كون ماهيّته المجرّدة لشيء وعاقليّته هى كون ماهيّة مجرّدة لشيء له بلا شرط أن يكون ذلك الشّيء هو أو غيره ، ووجوده المعقول فى ذاته هو وجوده لمدركه ، ووجوده لمدركه نفس معقوليّته.
فحيث إنّ المجرّد كان وجوده لذاته بخلاف المادّىّ ؛ فإنّ وجوده فى ذاته هو وجوده للمادّة ، فكان وجوده بعينه عقله لذاته ، وما منه بإزاء العاقليّة هو ما منه بإزاء المعقوليّة. إلاّ أنّك إذا قايست بينه وبين الذّوات العاقلة لمعقولات هى غيرها سمّيته باعتبارك أنّ ذاته لها هويّته المجرّدة عاقلا ، وحكمت أنّ ذلك منه بإزاء العاقليّة وباعتبارك أنّ هويّته المجرّدة لذاته معقولا ، ووضعت هذا منه بإزاء المعقوليّة ، لا على أنّ فى ذاته أحد الاعتبارين يخالف الآخر. فاختلاف الاسم يتبع اختلاف الإضافة الحاصلة بالمقايسة.
ولو كان كما يظنّ لا نجرّ الأمر فى تغاير اعتبارات ذات المبدأ الأوّل القيّوم الواجب بالذّات ـ تعالى ذكره ـ بحسب العاقليّة والمعقوليّة وسائر الشّئون والصّفات إلى تكثّر الحيثيّات فى ذاته ـ تقدّس مجده ـ وهل هذا إلاّ شرك صريح وزيغ فضيح فى معرفة الجناب الرّبوبىّ. وهل يحكم البرهان إلاّ أن يتعالى عن أمثال ذلك صقع قدّوسيّته ويرتفع عن أشباهه سدّة أحديّته. فليس هناك إلاّ تكثّر الأسماء باعتبار السّلوب والإضافات اللاّزمة من المقايسة بينه وبين غيره ، وحيثيّة الوجوب بالذّات ، أعنى القيّوميّة هى بعينها جملة الحيثيّات التّقييديّة الكماليّة بحيث يكذب تصوّر حيثيّتين كماليّتين على الإطلاق ويصدق إطلاق أسماء الحيثيّات الكماليّة بالأسر على الحيثيّة الواحدة الحقّة على أن لا يتكثّر اعتبارات الذّات ويكون إنّما المتكثّر حيثيّة التّسمية فقط ، وكبرياؤه أعلى من ذلك كلّه. وسيتلى عليك هذا النّمط من الحكمة على بسط ما للقول فى المسافات الرّبوبيّات إن شاء اللّه تعالى.