الموضوع الثالث
«الرضاعة في الاسلام»
لو أدرك الناس كافة معنى الاسلام ، وفقهوا كنه ما يرمي إليه ، لما بقي على وجه الأرض يدين بدين آخر ، لأنه مطلوب كل روح ومرمى كل قابلية ، وانشودة كل استعداد ، ومطمأن كل إحساس ، ومنتهى كل عقل من معنى الدين والإيمان ، وهذا سر قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (١).
ولو لا أنّ الاسلام دين ينطبق على كل قابلية واستعداد ، ويلائم كل عاطفة وإحساس ، لما كلف الخالق به عموم خلقه من إنس وجن ، وهو سبحانه وتعالى القائل بلسان الرحمة : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (٢).
فالقلب يشعر بوجود خالق لهذا الكون البديع أقامه على هذا السمت المدهش ، فتهتز في العقل عاطفة تعطفه لأن يتعقله ويدركه ، فيستعين بالفكر في إيتائه تلك الانشودة ، فيجول صاحبنا الفكر في فيافي التصورات فيعتضد بالخيال في شطحاته ، فيلبيه الخيال بنشاط بعد أن يعدّ كافة جنوده المعنوية ، فتثور في داخلية الانسان ثورة تتيقظ لها سائر عواطف النفس وقواها ، لأنّ الموضوع ماس بها من أخص جهاتها ، فتهب الحواس الخارجة أيضا من سباتها ، فتنظر العين إلى أبعد مدى تصل إليه ، فإذا كلت وحسرت تركت ما بعد قواها لجياد التصور والفكر ، فإذا عجزا دعوا الخيال لينفذ إلى حيث لم يصلا إليه ، وهكذا حتى يصل الأنسان لتصوير خالقه بأكمل صورة يشعرها ، ويهبه من الصفات أكمل ما يدرك أنه كمال.
__________________
(١) سورة سبأ : الآية ٢٨.
(٢) سورة البقرة : الآية ٢٨٦.