بقدر ما فيه من الطريق المستقيم يقربون إلى المقصود. فان كان غالبا أدّاه بالآخرة إلى المطلوب ، وإلا فهالك أو مرجي لأمر الله ، إمّا يعذّبهم ، وإمّا يتوب عليهم (١).
ثمّ إنّك إذا مثّلت الاعمال القلبيّة والجوارحيّة الصادرة من عباد الله مدّة أعمارهم في نفسك مع دخولهم الجنّة بعد وفاتهم ، رأيت تلك الامور الاختياريّة كأنّها طيّ مسافة كانت واقعة بين هؤلاء والجنّة ، فلمّا سلكوها وقطعوها وصلوا إلى مقصودهم ، كما أنّ أعمال الكفّار والفجّار طريق لهم إلى النار كذلك ، فلمّا قطعوه وقعوا فيها. فهذا صراط المغضوب عليهم والضالّين ، وهو صراط الّذين أنعمت عليهم وصراط العبوديّة والعبادة.
[الصّراط في الآخرة هو جسر معهود وبيان ارتباطه مع صراط الدّنيا]
هذا كلّه في المعنى الظاهريّ في عالم الدنيا ، وأمّا في عالم الآخرة ، فهو جسر ممدود على متن جهنّم لا بدّ في الوصول إلى الجنّة من المرور عليها على ما ورد في الشرع من صفاتها وما يتعلّق بها. والاعتبار يقتضي أن يكون سلوك ذلك الصراط مطابقا لسلوك الصراط المتقدّم في دار الدنيا ، فهو يمرّ غدا على ذلك الصراط على نحو ما يسلكه اليوم ، إلا أن يتدارك حاله برحمة خاصّة يغيّر حاله.
وهو أدقّ من الشعر وأحدّ من السيف ، كما أنّ لكلّ شأن من شئون العبوديّة حدّا ومعيارا يكون الخروج منه غلوّا أو تقصيرا خارجا عن الاستقامة. ففي مقام المعرفة تنتهي الدقّة إلى حدّ لا يوصف خصوصا في معرفة الحقّ ، فقلّ ما يكون معرفته مطابقة لما عليه الواقع من جميع الوجوه ؛ وفي مقام الاخلاق حدّه التوسّط بين الافراط والتفريط والعدالة ؛ وفي مقام العمل الاتيان بالاعمال مستجمعا لجميع الحدود والشرائط الظاهريّة والباطنيّة للصحّة والكمال والقبول
__________________
(١) كما يشهد له قوله تعالى في آية ١٠٦ من سورة التوبة وهي : «وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ.»