نعمة فمن الله (١) ، وكلّ نعمة وصلت إلينا بتوسّط أحد من المخلوقين ، فخالقها وخالق الواسطة وجاعله واسطة فيه هو الحقّ ، فمثال الواسطة مثال العبد الّذي سخّره مولاه وأمره بأن يوصل إلينا طعاما من أطعمته ، فهو ليس بمنعم علينا أصلا ، ولا يستحقّ الشكر ؛ لأنّ الطعام والعبد والتسخير كلّها من المولى ، وليس العبد محسنا إلينا ، وإنّما متسخّر لما سخّره مولاه. وكذلك لا يستحقّ الواسطة بيننا وبين النعم اسم المنعم ولا الشكر عليها ، فانّه مسخّر تحت راعيه سخّرها مسبّب الاسباب ليوصل إليك ما قدّره لك ، ولا يقصد بفعله ابتداء إلا نفع نفسه. وحيث رأى منفعة نفسه في الانعام الصوري صيّر نفسه واسطة في وصول النعمة الّتي خلقها خالقها وهو باقية على ملك مالكها (٢) ؛ كالعبد في المثال المتقدّم ، وكالبهيمة الّتي يحمل عليها النعم ، مع أنّ البهائم مختارون في أفعالهم ، فكما ليست منعمة بل واسطة فكذلك الانسان المتوسّط بينك وبين النعمة ، بل والملائكة الموكّلون باصلاح النعمة وما يتعلّق بها أيضا ليسوا منعمين ، ولا يستحقّون علينا شكرا ، فانّهم عبيد مأمورون للحقّ بأمور لا يسعهم إلا الاتيان بها ؛ كالعبد في المثال المتقدّم ليس غرضهم أوّلا وبالذات الاحسان إلينا لأجل أنفسنا ، بل إطاعة أمر مولاهم ؛ (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ). (٣)
[بيان أصناف النّعمة]
ثمّ إنّ أصناف نعم الله سبحانه على عباده كثيرة غير محصورة ، كما قال سبحانه : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها)(٤).
__________________
(١) إشارة إلى قوله تعالى : «وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ...» (النحل / ٥٣).
(٢) في المخطوطة : «مالكها إليك» ، ويحتمل أن يكون «سالكها إليك» ، فيصحّ المعنى حينئذ.
(٣) الانبياء / ٢٧.
(٤) إبراهيم / ٣٤ ؛ والنحل / ١٨.