[في بيان حقيقة استهزاء الله سبحانه والمراد منه]
أقول : لمّا كان الاستهزاء والسخريّة من قبيل الباطل والجهل والعبث ، كما يشهد له ما حكاه سبحانه : (قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ)(١) وكان الله سبحانه منزّها عن مثل ذلك ، لزم أن يتصرّف في اللّفظ بما يخرجه عن الدخول تحت هذه العناوين ، إمّا بأن يراد منه جزاء الاستهزاء ، فيكون إطلاقا للفظ الاستهزاء على جزائه كما في قوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها)(٢) ، وقوله سبحانه : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ)(٣) ، كما هو المترائى من جملة من الروايات (٤) ؛ وإمّا بأن يراد منه إنزال الهوان والحقارة بهم ؛ لأنّ غرض المستهزء هو الخفّة والزراية بمن يهزء به ، وإدخال الهوان والحقارة عليه ، ويؤيّده الاشتقاق كما مرّ.
وقال بعضهم إنّه : «قد كثر التهكّم في كلام الله سبحانه بالكفرة ، والمراد به تحقير شأنهم وازدراء أمرهم ، والدلالة على أنّ مذاهبهم حقيقة بأن يسخر منها الساخرون ، ويضحك الضاحكون» (٥) وأن يكون المراد منه معاملة مشابهة في الصورة لما يفعله المستهزئ ، وذلك باجراء أحكام المسلمين عليهم ظاهرا مع التعريض بهم حتّى لا يخفى أمرهم على المخلصين في الدنيا ، وإظهار صورة النجاة لهم بحيث يتخيّلون أنّ به نجاتهم ، وحصول اليأس بعد الطلب والتعب في الآخرة بالتفصيل المتقدّم.
__________________
(١) البقرة / ٦٧.
(٢) الشورى / ٤٠.
(٣) البقرة / ١٩٤.
(٤) كالروايات المتقدمة في بيان حقيقة مخادعة الله مع المنافقين ، وأنها ليست إلّا جزاء لمخادعتهم اليه ، فراجع.
(٥) الكشاف ، ج ١ ، ص ٣٥.