[في بيان وجه التّمثيل]
وممّا فصّلنا يظهر بعض شأن هذا التمثيل الالهيّ بحسب مبلغ أفهامنا ومدرك بصائرنا ، وما يترتّب على ضربه من زيادة الكشف ، وتتميم البيان ، وتصوير المعقول ضورة المحسوس ، وتطبيق العوالم بعضها مع بعض ، وإظهار حال بعضها لمن ليس من أهل ذلك العالم بايراد مثاله المطابق له من العالم الّذي هو فيه. ولمثل ذلك كثر ضرب الامثال في كلام الحكماء والعلماء والعرب على حسب مراتبهم ومقاصدهم في ضربها ، وليس يخفى شأنها في إبراز خبيّات المعاني ، ورفع الاستار عن الحقائق ، حتّى تريك المتخيّل في صورة المحقّق ، والمتوهّم في معرض المتيقّن ، والغائب في صورة الشاهد. وفيه تبكيت للخصم ، وقمع سورته.
ولعلّه لمثل ذلك كثر في كلامه سبحانه ضرب الامثال ؛ كما قال سبحانه : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) (١).
وقد سبق في الاخبار على ما ببالي : «أن القرآن أمثال لقوم يعلمون» (٢).
والظاهر أنّ كمال المثال في اتّحاده مع الممثّل مع تغاير العالمين ؛ إذ العوالم متطابقة ، فكلّ شيء يرى هيهنا فله حقيقة في سائر العوالم ، بل كلّ ما هيهنا مثال لما هناك ، فتفهّم إن كنت من أهله.
ثمّ إنّ هيهنا نكته وهو : أنّهم فرّقوا بين «أذهبه» و «ذهب به» بأنّ معنى أذهبه : جعله ذاهبا وأزاله ، ومعنى ذهب به : استصحبه ومضى به معه. وحينئذ فلعلّ في التعبير على الوجه الثاني هيهنا دلالة على أن ما يفنى من هذا العالم لا ينعدم انعداما مطلقا ، بل هو موجود في عالم آخر من عوالمه سبحانه ،
__________________
(١) العنكبوت / ٤٣.
(٢) المقدمة الثانية ، ص ٣٩.