خرج الإنسان إلى جانب القبلة ؛ كانت قبلته تلقاء المسجد الحرام ، فكذا إذا خالفه بالإدبار ونحوه ، وذلك الاختيار.
وأمّا في وقت الاضطراب فيتوجه إلى حيث أمكن ، فظاهر الاضطرار ، وباطن الاختيار يكون أمرا واحدا هو التوجه الوحداني من غير تقيّد بجهة من الجهات ، وسرّ ذلك أن باطن الاختيار أيضا اضطرار عند من له كشف وشهود ؛ لأن الاختيار خبر في الحقيقة ، وليس المحرّك إلا الله تعالى.
وإنما شرّع التوجه إلى القبلة في الظاهر ؛ لأن الكعبة عندها الهمم ، ففيه القوة على أنه من باب الأدب ؛ لأن الإنسان من جهة ظاهره مقيّد بالقيود ، فلا بد له من التحديد ، وذلك لا ينافي الاطلاق المعنوي.
وقد جعل الله الكعبة المساجد ؛ كمدار العالم ، فكما أن نقاط الدائرة تتوجه إلى المركز ؛ فكذا المساجد تتوجه إلى أم المساجد ؛ لكن التوجه إلى ميزاب الرحمة أقوى من التوجه إلى سائر الجهات ؛ لأنه حاله صلىاللهعليهوسلم في اواخره.
وفيه إشارة إلى الأسفار المعنوية من جهة الأسماء الإلهية من حيث إنه لا بد في تلك الأسفار من التوجه إلى المسمّى ؛ لأنه مدار الأسماء كلها ؛ ولكن لمّا كان المسمّى من حيث إطلاقه لا يمكن التوجه إليه ؛ جعل القلب في المعنى بمنزلة المسجد الحرام في الظاهر ؛ فهو مظهر المسمّى ، ومن تلك الجهة يمكن التوجه إليه ؛ فهو بيت لله تعالى في الحقيقة ، وإليه توجّهات الأسماء في الأسفار.
كما قال تعالى : «يا داود فرّغ لي بيتا أسكنه» (١).
أراد به قلب داود ، وتضريعه قطع تعلّقاته ، وتخلّيه عن الخواطر ونحوها ، ولأن القلب متوجه الأسماء كلها جمالية وجلالية ؛ كان أهل القلب أقوى من أهل الروح ؛ لأن أهل الروح أهل الجمال فقط ، فمن كان دعوته من مقام القلب ؛ كان قومه أطوع ، ومن كان دعوته من مقام الروح ؛ كان قومه أعدل ، ومن كان دعوته من مقام السرّ ؛ كان قومه أنكر كقوم نوح عليهالسلام ، ولذا قلّ الإيمان مع تمادي مدة الدعوة ، وفي كل ذلك حكمة إلهية.
__________________
(١) لأورده سيدي محمد وفا في المعاريج (ص ١٩٦) بتحقيقنا.