الموجودة في العين هالك من حيث تعيّنه الخاص إلا الوجه الذي يلي الحق ؛ وهو أحد وجهي الحقيقة الكونية التي هو الإطلاق على ما ذهب إليه أهل التفسير والتأويل ، وعلى هذا يدور سرّ قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥].
وكل من العرش والشرع مقلوب الآخر ، فكما أن الرحمة العامة مستوية على العرش المجيد العظيم ؛ فكذا الأمر التكليفي الشامل مستوية على الشرع الشريف ، ومحلّه في الحقيقة هو الإنسان الذي هو الكرسي ؛ لأن كلّا من الأمر والنهي إنما ظهر في العرش إجمالا ، ثم في الكرسي تفصيلا ، والروح (١).
فلك الرحمة والقلب ، فلك الحياة ، فكل منهما استوى على عرشه ، فكان الإنسان صورة العالم من كل وجه ، ومن نازع في الذي ذكرناه ؛ فعليه كلامه ؛ لأن الإنكار من سوء الفهم ؛ وهو حال العقل القاصر ، والقلب السقيم ، رحمنا الله وإياكم برحمته مطلقا ، وجعل إيماننا وتصديقنا يقينا حقا.
قال الله تعالى : (قالُوا بَلى) [الأنعام : ٣٠].
هذه المقولة إمّا روحانية ؛ فتكون بلسان الروح كما في البرزخ بعد الممات ، فإن الأرواح تتكلّم في عالم البرزخ باللسان المناسب لها كما في عالم الخيال في الدنيا
__________________
(١) قال سيدي علي وفا : والاستواء هو التجلّي التام ، ومنزلة الناطقة من هذا الجوهر الروح منزلة قواه من الجوهر الجسم ، فإذا نفخ الروح الحيوان في الجسم ، ونفخ الحق الناطق في الروح الحيوان ، استوى الرحمن على العرش ، وتعلّق كل منفوخ بمحله كما تقدم ، لا يتصل بذلك المنفوخ فيه أمر إلا اتصل بالمنفوخ ، فلا يحس الجسم محسوسا إلا أدركه الروح الحيوان تعقّلا وتخيلا وتوهما ، وأدركه الروح الناطق عقلا وخيالا ، واتصل بالرحمن كشفا وتمييزا ، وهذا عروج إلى الرحمن على المدرجة التي نزل من عنده عليها ، فلا يظهر محسوس إلا عن تجلّي الرحمن في الناطق ، وبالناطق في العرش ، وظهور ذلك المتجلى به في القوى.
فما من جسم إلا وللروح به تعلق بحسبه ، وللناطق بالروح تعلق مناسب لذلك ، وللرحمن في الناطق ظهور مناسب لذلك ، وما كان كل محسوس إلا بأن ظهر الرحمن به في الناطق ، فظهر به الناطق في العرش ، فظهر به العرش في القوى الجسماني ، فظهر في الحس الذي هو مرآته ، هذا حكم هذا النظام في هذا المقام.