لم يكتب علينا عهده ، فإنا بحكم السيد ، فلما أبقنا بخروجنا عن حقيقتنا وادعينا الملك والتصرف ، والأخذ والعطاء ، كتب بيننا وبينه عقودا ، وأخذ علينا العهد والميثاق ، وأدخل نفسه معنا في ذلك ، والعبد لا يكتب عليه شيء ولا يجب له حق ، فإنه ما يتصرف إلا عن إذن سيده ، فإذا وفى العبد حقيقة عبوديته ، لم يؤخذ عليه عهد ولا ميثاق ، فمن أصعب آية تمر على العارفين كل آية فيها (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) أو العهود فإنها آيات أخرجت العبيد من عبوديتهم لله. فإن قلت : كيف كلف الحق نفسه وقيدها ، مع أنه مطلق ، والمطلق ، لا يقبل التقييد بوجه من الوجوه؟ قلنا : إن للمطلق أن يقيد نفسه إن شاء ، وأن لا يقيدها إن شاء ، فإن ذلك من صفة كونه مطلقا إطلاق مشيئة ، ومن هنا أوجب الحق على نفسه ، ودخل تحت العهد لعبده فقال في الوجوب : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أي أوجب فهو الموجب على نفسه ، ما أوجب غيره عليه ذلك فيكون مقيدا بغيره ، فقيد نفسه لعبيده رحمة بهم ولطفا خفيا ، وقال في العهد : (أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) فكلفهم ، وكلف نفسه ، لما قام الدليل عندهم بصدقه في قيله ، ذكر لهم ذلك تأنيسا لهم سبحانه وتعالى ، ولكن هذا كله أعني دخوله في التقييد لعباده من كونه إلها ، لا من كونه ذاتا ، فإن الذات غنية عن العالمين ، والملك ما هو غني عن الملك ، إذ لولا الملك ما صح اسم الملك ، فالمرتبة أعطت التقييد ، لا ذات الحق جل وتعالى ـ تنبيه ـ احذر أن تفي ليفي إليك ، أوف أنت بعهدك واتركه يفعل ما يريد ، فإنه من وفى بعهده ليفي له الحق بعهده ، لم يزده على ميزانه شيئا ، حيث ورد في الحديث «كان له عند الله عهدا أن يدخله الجنة» لم يقل غير ذلك ، وقد قال تعالى : (وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ) ولم يطلب الموازنة ولا ذكرها هنا أنه ليفي له بعهده ، وإنما قال : (فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) وما عظمه الحق فلا أعظم منه ، فاعمل
____________________________________
المنّ والسلوى وتفجير الماء من الحجر ومشيهم على البحر وإنجائهم من عدوهم وتظليل الغمام وغير ذلك ، فإن الله يمن على عباده بما يمتن عليهم من المنن الجسام ، ولذا سميت مننا ، وليس للعباد أن يمتنوا ، لأن النعم ليست إلا لمن خلقها ، فلهذا كان المن من الله محمودا ، لأنه ينبه عباده بما أنعم عليهم ليرجعوا إليه ، وكان مذموما من العباد لأنه كذب محض ، قال تعالى (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ، قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ ، بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) ثم قال تعالى لهم (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) أي أوفوا بما أخذت عليكم من الميثاق ، فأخبرنا بذلك لنسمع