فافهم واعتبر ، فإنه ما أيه بك إلا لمّا سمعت ، وإن أمرك أو نهاك فامتثل ، وما ثم قسم رابع ، إنما هو خبر أو أمر أو نهي.
واعلم يا أخي أن القرآن العزيز خاطبنا الحق به على طريقين : منه آيات خاطبنا بها يعرفنا فيها بأحوال غيرنا وما كان منهم ، وإلى أين كان مبدؤنا ، وإلى أين كانت غايتنا ، وهو الطريق الواحد ، ومنه آيات خاطبنا بها لنخاطبه بها ، وهي على قسمين : خاطبنا بآيات لنخاطبه بها مخاطبة فعلية ، مثل قوله تعالى (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) ـ و (آتُوا الزَّكاةَ) ـ و (أَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) وغير ذلك ، ومخاطبة لفظية مثل قوله (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)(رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا)(رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) وأشباه ذلك كثير ، وليس القرآن يحوي على غير هذا ، وينبغي لك أن تتنبه للتفرقة في كلام الله تعالى إذا قرأته مثل قوله (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا) وقف هنا وبين قوله (آمَنَّا) وقف ، ثم قل (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا) وقف ثم قل (إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) وقف ، ثم قل (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) فإنك إذا قرأته على هذا الحد عرفت أسراره ، وميزت مواقع الخطاب ، وحكايات الأحوال والأقوال والأعمال وتناسب الأشياء.
الإشارة
اعلم أيدنا الله وإياك بروح منه ، أنه ما خلق الله أشق ولا أشد من علماء الرسوم على أهل الله المختصين بخدمته ، العارفين به من طريق الوهب الإلهي ، الذي منحهم أسراره في خلقه ، وفهمهم معاني كتابه وإشارات خطابه ، ولما كان الأمر في الوجود الواقع على ما سبق به العلم القديم ، عدل أصحابنا إلى الإشارات ، كما عدلت مريم عليهاالسلام من أجل أهل الإفك والإلحاد إلى الإشارة ، فكلامهم رضي الله عنهم في شرح كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إشارات ، وإن كان ذلك حقيقة وتفسيرا لمعانيه النافعة ، ورد ذلك كله إلى نفوسهم ، مع تقريرهم إياه في العموم وفيما نزل فيه ، كما يعلمه أهل اللسان الذين نزل الكتاب بلسانهم ، فعم به سبحانه عندهم الوجهين ، فيسمون ما يرونه في نفوسهم إشارة ، ليأنس الفقيه صاحب الرسوم إلى ذلك ، ولا يقولون في ذلك إنه تفسير ، وقاية لشرهم وتشنيعهم في ذلك بالكفر عليه ، وذلك لجهلهم بمواقع خطاب الحق ، واقتدوا في ذلك بسنن الهدى ، فإن الله كان قادرا على تنصيص ما تأوله أهل الله