القائم بنفسي لا أفتقر في وجودي إلى حافظ يحفظه عليّ ، وأنت تفتقر في وجودك لحافظ يحفظه عليك وهو أنا ، فجعلت لك الغذاء وأفقرتك إليه ، لأنبهك أني أنا الحافظ عليك وجودك ، ليصح عندك افتقارك ، ومع هذا الافتقار طغيت وتجبرت وتكبرت ، وتعاظمت في نفسك وما استحييت في ذلك من فضيحتك بجوعك وعطشك ، لذلك قال تعالى : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها) فإذا دخل العبد في نعت الربوبية وهو الله ، فقد تعدى حدود الله ، وهي الحدود الرسمية لا الحدود الذاتية ، فإنه ليس بأيدينا من الحدود الذاتية شيء ، ولهذا اجترأ العباد عليها وتعدوها ومنها عوقبوا ، كما إذا أدخل الحق صاحب الحد فيما هو له لم يتصف الداخل بالظلم فما استوجب عقوبة ، فلما كان حدا رسميا قبل العبد الدخول فيه ، فإن دخل فيه بنفسه من غير إدخال صاحبه فقد عرض نفسه للعقوبة ، فصاحب الحد بخير النظرين إن شاء عاقب ، وإن شاء عفا ، وإن شاء أثنى ، كالمتصف بالكرم والعفو والصفح ، وهذه كلها حدود رسمية للحق ، لذلك قال : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) فوصفهم بالتقوى إذا لم يتعدوها وجعلوها وقاية لهم ، ـ إشارة ـ قوله تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ) كما يحرم على المكلف الأكل عند تبين الفجر ، كذلك يحرم على صاحب الشهود أن يعتقد أن ثم في الوجود غير الله فاعلا بل ولا مشهودا ، وما يمسك عنه الصائم هو علم الذوق ، والذوق أول مبادي التجلي الإلهي.
____________________________________
ابن ياسر وأبي عبيدة بن الجراح ، كان أحدهم يعتكف فإذا أراد الغائط رجع من المسجد إلى أهله بالليل فيباشر ويجامع امرأته ثم يغتسل ويرجع إلى المسجد ، فأنزل الله هذه الآية وقرنها بشرطين ، الاعتكاف وكونه في المسجد ، فإذا اجتمعا فلا خلاف ، كالربيبة التي في الحجر مع الدخول بالأم ، وإذا انفرد أحد الشرطين لم يلزم الحكم حكم تحريم الجماع للمعتكف في غير المسجد ، وقد قيل بذلك ، فليس للمعتكف في المسجد أن يجامع أهله ليلا ولا نهارا ما دام في هذه العبادة ، وفي هذه الآية دليل على جواز الاعتكاف في المساجد كلها ، فإنه عمّ بلام الجنس ، والاعتكاف الإقامة في المسجد أدنى ما ينطلق عليه اسم إقامة من ليل أو نهار ، بنية القربة والعبادة لله تعالى ، فمنع المعتكف من المباشرة وما منعه من الأكل والشرب كما منع الصائم ، فدل على جواز الاعتكاف بغير صوم وأنه عمل مستقل ، وقوله : (تِلْكَ) إشارة إلى ما تقدم من ذكر الأحكام كلها من صوم ووصية وقصاص ، يقول : تلك (حُدُودُ اللهِ) التي حدها ليوقف عندها ولا تتجاوز ، ثم قال : (فَلا تَقْرَبُوها) مثل قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم : [الراتع حول الحمى يوشك