هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ، وبيّن الحق في هذه الآية أن الشهادة لا تكون إلا عن علم لا عن غلبة ظن ، ولا تقليد إلا تقليد معصوم فيما يدعيه ، فتشهد له بأنك على علم ، كما نشهد نحن على الأمم أن أنبياءها بلّغتها دعوة الحق ، ونحن ما كنا في زمان التبليغ ، ولكن صدّقنا الحق فيما أخبر به في كتابه ، وكشهادة خزيمة ، وذلك لا يكون إلا لمن هو في إيمانه على علم بمن آمن به ، لا على تقليد وحسن ظن. ثم قوله تعالى بنفسه (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) نظير الشهادة الأولى التي له ، فحصلت شهادة العالم له بالتوحيد بين شهادتين إلهيتين أحاطتا بها ، حتى لا يكون للشقاء سبيل إلى القائل بها ، ثم تممّ بقوله (الْعَزِيزُ) ليعلم أن الشهادة الثانية له مثل الأولى لاقتران العزة بها ، أي لا ينالها إلا هو ، لأنها منيعة الحمى بالعزة ، ولو كانت هذه الشهادة من الخلق لم تكن منيعة الحمى عن الله ، فدلّ إضافة العزة لها على أنها شهادة الله لنفسه ، فهو تعالى العزيز فلا يصل أحد إلى العلم ولا إلى الظفر بحقيقته. وقوله (الْحَكِيمُ) لوجود هذا الترتيب في إعطاء السعادة لصاحب هذه الشهادة ، حيث جعلها بين شهادتين منسوبتين إلى الله ، من حيث الاسم الأول والآخر وشهادة الخلق بينهما ، فسبحان من قدّر الأشياء مقاديرها ، وعجز العالم عن أن يقدّروها حقّ قدرها ، فكيف أن يقدروا من خلقها ، وهو تعالى الحكيم الذي نزل لعباده في كلماته ، فقرّب البعيد في الخطاب لحكمة أرادها تعالى ـ فائدة ـ اعلم أن الله جعل في قلب العارف كنز العلم بالله ، فشهد لله بما شهد به الحق لنفسه من أنه لا إله إلا هو ، ونفى هذه المرتبة عن كل ما سواه ، فقال تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) فجعلها كنزا في قلوب العلماء بالله ، ولما كانت كنزا لذلك لا تدخل الميزان يوم القيامة ، وما يظهر لها عين إلا إن كان في الكثيب الأبيض يوم الزور ، ويظهر جسمها وهو النطق بها عناية لصاحب السجلات لا غير ، فذلك الواحد يوضع له في ميزانه التلفظ بها ، إذ لم يكن له خير غيرها ، فما يزن ظاهرها شيء ، فأين أنت من روحها ومعناها؟ فهي كنز مدّخر أبدا دنيا وآخرة ، وكل ما ظهر في الأكوان والأعيان من الخير فهو من أحكامها وحقها.
(إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (١٩)