ما يأتي بالقهر والفظاظة ، ولا يأتي بالقهر ما يأتي باللين ، فإن القهر لا يأتي بالرحمة والمودة في قلب المقهور ، وباللين ينقضي المطلوب وتأتي بالمودة ، فتلقيها في قلب من استملته باللين ، وصاحب اللين لا يقاوم ، فإنه لا يقاوم لما يعطيه اللين من الحكم ، فالرخاوة في الدين من الدين ، ولهذا امتن الله فجعل نبيه من أهل اللين فقال (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) وبهذا فضلهم ، واللين خفض الجناح والمداراة والسياسة ، قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : [مداراة الناس صدقة] والدعوة إلى الله تحتاج إلى علم السياسة ، فإن صورتها من الداعي تختلف باختلاف صورة المدعو ، فثم دعاء بصفة غلظة وقهر ، وثمّ دعاء بصفة لين وعطف (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) فلو كان فظا غليظا في فعله وقوله لانفضوا من حوله ، فهم مع العفو واللين لا يقبلون ، فكيف مع الشدة والفظاظة ، لن يزالوا مدبرين (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) ليس للرسول من حيث رسالته المشاورة ، فمشاورته لأصحابه في غير ما شرع له ، وذلك من مقام الخلافة لا الرسالة. فلما كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم من الخلفاء قيل له (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) فأمر الحق نبيه صلىاللهعليهوسلم بمشاورة أصحابه في الأمر الذي يعنّ له إذا لم يوح إليه فيه شيء ، لأن للحق وجها خاصا في كل موجود ، لا يكون لغير ذلك الموجود. فقد يلقي إليه الحق سبحانه في أمر ما ما لا يلقيه لمن هو أعلى منه طبقة ، كعلم الأسماء لآدم مع كون الملأ الأعلى عند الله أشرف منه ، ومع هذا كان عند آدم ما لم يكن عندهم. والله تعالى يعطي بسبب ، وهو الذي كتبه القلم من علم الله في خلقه ، ويعطي بغير سبب ، وهو ما يعطيه من ذلك الوجه ، فلا تعرف به الأسباب ولا الخلق ، فوقعت المشورة ليظهر عنها أمر يمكن أن يكون من علم ذلك الوجه ، فيلقي إليه من شاوره في تدبيره علما قد حصل له من الله ، من حيث ذلك الوجه الذي لم يكتب علمه ولا حصل في خلقه ، ولهذا قال الله لرسوله (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) يعني على إمضاء ما اتفقتم عليه في المشورة ، أو ما انفردت به دونهم. وقوله تعالى : (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) في مثل هذا ما لم يقع الفعل ، فإن العزم يتقدم الفعل ، فقيل له : توكل على الله ، فإنه ما يدري ما لم يقع الفعل ما يلقي الله في نفسك من ذلك الوجه الخاص الإلهي ، فلا يطلع على مراتب العقول إلا أصحاب المشاورة ، ولا سيما في المسامرة ، فإنها أجمع للهمّ والذكر ، وأقدح لزناد الفكر. فعرض الإنسان ما يريد فعله على الآراء دليل على عقله التام ، ليقف على تخالف الأهواء ، فيعلم