فقدوا حينئذ ، وجد ذلك الاستعداد في غير الرسل ، فقبلوا ذلك التنزل الإلهي في قلوبهم ، فسموا ورثة ، لم ينطلق عليهم اسم رسل مع كونهم يخبرون عن الله بالتنزل الإلهي. فإن كان في ذلك التنزل الإلهي حكم أخذه هذا المنزل عليه وحكم به ، وهو المعبر عنه بلسان علماء الرسوم المجتهد الذي يستنبط الحكم عندهم ، وهو العالم بقول الله (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) ، فهذا حظ الناس اليوم من التشريع بعد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ونحن نقول به ، ولكن لا نقول بأن الاجتهاد هو ما ذكره علماء الرسوم ، بل الاجتهاد عندنا بذل الوسع في تحصيل الاستعداد الباطن الذي به يقبل هذا التنزل الخاص ، الذي لا يقبله في زمان النبوة والرسالة إلا نبي أو رسول ، إلا أنه لا سبيل إلى مخالفة حكم ثابت قد تقرر من الرسول صلىاللهعليهوسلم في نفس الأمر ، فإن لم يكن ذلك في نفس الأمر فلا يلقى إلى هذا المجتهد الذي ذكرناه إلا ما هو الحكم عليه في نفس الأمر ، حتى إنه لو كان الرسول صلىاللهعليهوسلم حيا لحكم به ، مع أنه قرر حكم المجتهد وإن أخطأ. فما أخطأ المجتهد إلا في الاستعداد كما ذكرناه ، فلو أصاب في الاستعداد ما أخطأ مجتهد أبدا ، بل لا يكون مجتهدا في الحكم ، وإنما هو ناقل ما قبله من الحق النازل عليه في تجليه ، وهذا عزيز في الأمة ما يوجد إلا في أفراد ، وعلامتهم أنهم ما يختلفون في الحكم أصلا لوحدانية الرسالة في هذا الزمان ، فإذا اختلفوا فما هم الذين ذكرناهم ، فيكون صاحب الحق إذا كانت الأحكام منحصرة القسمة واحدا منهم ، فإن بقي قسم لم يقع به حكم ربما كان الحق فيه ، ومع هذا تعبد كل واحد بما أعطاه دليله ، فإن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر ، فوقع الاجتهاد في الاجتهاد ، فإن كنت من أهل الاجتهاد في الاستنباط للأحكام الشرعية ، فأنت وارث نبوة شرعية ، فإنه تعالى قد شرع ذلك في تقرير ما أدى إليه اجتهادك ودليلك من الحكم أن تشرعه لنفسك وتفتي به غيرك إذا سئلت ، وإن لم تسئل فلا. واعلم أن الاجتهاد ما هو في أن تحدث حكما ، هذا غلط ، وإنما الاجتهاد المشروع طلب الدليل من كتاب أو سنة أو إجماع ، وفهم عربي على إثبات حكم في تلك المسئلة بذلك الدليل الذي اجتهدت في تحصيله والعلم به في زعمك ، هذا هو الاجتهاد ، فإن الله تعالى ورسوله ما ترك شيئا إلا وقد نصّ عليه ولم يتركه مهملا ، فإن الله تعالى يقول (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) وبعد ثبوت الكمال فلا يقبل الزيادة ، فإن الزيادة في الدين نقص من الدين ، وذلك هو الشرع الذي لم يأذن به الله.