حتى لا يقوم لهم حجة بالاشتغال بما به قوامهم ، فخلق الأشياء التي بها قوامهم خاصة من أجلهم ليتفرغوا لما قصد بهم ، فقامت عليهم حجة الله إذا لم يقوموا بما خلقوا له ، جاء في الأثر أن الحق يقول لابن آدم : خلقت الأشياء من أجلك ، وخلقتك من أجلي ، فلا تهتك ما خلقت من أجلي ، فيما خلقت من أجلك ـ تحقيق ـ العالم لا يرمي بشيء من الوجود ، وإنما يبرز إليه ما يناسبه منه ، ولا يغلب عليه حال من الأحوال ، بل هو مع كل حال بما يناسبه ، فإن أكثر الناس لا يعلمون ذلك ، بل هم بهذا القدر جاهلون ، وهذا هو الذي أداهم إلى ذم الدنيا وما فيها ، والزهد في الآخرة ، وفي كل ما سوى الله ، وانتقدوا على من شغل نفسه بمسمى هذه كلها ، وجعلهم في ذلك ما حكي عن الأكابر في هذا النوع ، وحملوا ألفاظهم على غير وجه ما تعطيه الحقيقة ، ورأوا أن كل ما سوى الله حجاب عن الله ، فأرادوا هتك هذا الحجاب فلم يقدروا عليه إلا بالزهد فيه ، والحق كل يوم في شأن الخلق ، والجنة وهي دار القربة ومحل الرؤية ، هي دار الشهوات وعموم اللذات ، ولو كانت حجابا لكان الزهد والحجاب فيها ، وكذلك الدار الدنيا ، فالله خلق أجناس الخلق وأنواعه ، وما أبرز من أشخاصه لننظر فيه نظرا يوصلنا إلى العلم بخالقه ، فما خلقه لنزهد فيه ، فوجب علينا الانكباب عليه ، والمثابرة والمحبة فيه ، لأنه طريق النظر الموصل إلى الحق ، فمن زهد في الدليل فقد زهد في المدلول ، وخسر الدنيا والآخرة ، ذلك هو الخسران المبين. وجهل حكمة الله في العالم وجهل الحق وكان من الخاسرين ، فالرجل كل الرجل من ظهر بصورة الحق في عبودة محضة ، فأعطى كل ذي حق حقه ، ويبدأ بحق نفسه فإنها أقرب إليه من كل من توجه له عليه حق من المخلوقين ، وحق الله أحق بالقضاء ، وحق الله عليه إيصال كل حق إلى من يستحقه ، فيطلبه أصحاب الحقوق بحقوقهم نطقا وحالا ظاهرا وباطنا ، فيطلبه السمع بحقه ، والبصر واللسان واليدان والبطن والفرج والقدمان والقلب والعقل والفكر والنفس النباتية ، والحيوانية والغضبية والشهوانية والحرص ، والأمل والخوف والرجاء والإسلام والإيمان والإحسان ، وأمثال هؤلاء من عالمه المتصل به ، وأمره الحق أن لا يغفل
____________________________________
وكان أيضا هذا ابتلاء مدرجا في نعمة ، أو نعمة مدرجة في ابتلاء ، مثل خلق الحياة والموت ، فقال تعالى (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ