هو الأمر في نفسه ، وإن كان حيا ، فقد استوى الميت والحي في كون الحق تعالى بصرهما ، وما عندهما شيء ، فإن الله لا يحلّ في شيء ولا يحل فيه شيء ، إذ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، ويشير إلى هذه الآية قوله صلىاللهعليهوسلم في الإحسان : [فإن لم تكن تراه فإنه يراك] فيتجلى الله تعالى للعارفين على قلوبهم ، وهو المرئي في الدنيا بالقلوب والأبصار ، ومع أنه سبحانه منبىء عن عجز العباد عن درك كنهه ، فقال : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) لطيف بعباده بتجليه لهم على قدر طاقتهم ، خبير بضعفهم عن حمل تجليه الأقدس على ما تعطيه الألوهة ، إذ لا طاقة للمحدث على حمل جمال القديم.
(قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥) اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (١٠٦)
هذا خطاب لرسول الله صلىاللهعليهوسلم خص به باعتباره الداعي ، لمجيئه بالتوحيد الإيماني لا التوحيد العقلي ، وهو توحيد الأنبياء والرسل ، لأنها ما وحدت عن نظر ، وإنما وحدت عن ضرورة علم وجدته في نفسها لم تقدر على دفعه ، فترك المشركين وآلهتهم وانفرد بغار حراء يتحنث فيه من غير معلم إلا ما يجده في نفسه حتى فجأه الحق ، وهو قوله : (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي أنه لا يقبل الشريك (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) فأعرض عنهم حتى يستحكم الإيمان ، وأقمه بنفس الرحمن فأجعل له أنصارا ، وآمرك بقتال المشركين لا الإعراض عنهم ، وهذا هو التوحيد الثامن في القرآن ، وهو من توحيد الاسم الرب ، وقد عمم بإضافة جميعنا إليه في التوحيد السابع فقال : (ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو) وهنا خصص به الداعي ، وهو توحيد الاتباع ، وهو من توحيد الهوية ، فهو توحيد تقليد في علم ، لأنه نصب الأسباب وأزال عنها حكم الأرباب لما قالوا : (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) فأمر صلىاللهعليهوسلم أن يعرض عن الشرك لا عن السبب ، فإنه قال في مصالح الدنيا :