هذا ضرب مثل في الكفر والإيمان ، والعلم والجهل ، فالجهل موت والعلم حياة لذلك قال تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً) أراد بالموت الجهل (فَأَحْيَيْناهُ) بالعلم وهي الحياة العلمية التي تحيى بها القلوب فحياة العلم يقابلها موت الجهل ، وبالنور يقع حصوله كما بالظلمة يكون الجهل (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ) وهي الضلال (لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) أي لا يهتدي أبدا. واعلم أن الموت عبارة عن مفارقة الروح الجسد الذي كانت به حياته الحسية ، وهو طارىء عليها بعد ما كانا موصوفين بالاجتماع الذي هو علة الحياة ، فكذلك موت النفس بعدم العلم ، فان قلت إن العلم بالله طارئ الذي هو حياة النفوس ، والجهل ثابت لها قبل وجود العلم ، فكيف يوصف الجاهل بالموت وما تقدمه علم؟ قلنا إن العلم بالله سبق إلى نفس كل إنسان في الأخذ الميثاقي حين أشهدهم على أنفسهم ، فلما عمرت الأنفس الأجسام الطبيعية في الدنيا فارقها العلم بتوحيد الله ، فبقيت النفوس ميتة بالجهل بتوحيد الله ، ثم بعد ذلك أحيا الله بعض النفوس بالعلم بتوحيد الله ، وأحياها كلها ، بالعلم بوجود الله ، إذ كان من ضرورة العقل العلم بوجود الله ، فلهذا سميناه ميتا ، فقال تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً) يعني بما كان الله قد قبض منه روح العلم بالله ، فقال تعالى في معرض الامتنان : (فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) فرد إليه علمه فحيى به ، كما ترد الأرواح إلى أجسامها في الدار الآخرة يوم البعث (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) يريد مقابلة النور الذي يمشي به في الناس ، وما هو عين الحياة ، فالحياة الإقرار بالوجود ، أي بوجود الله لا بتوحيده ، ما تعرض للتوحيد في الإشهاد ، ولهذا أردف الله في الآية حين قال : (فَأَحْيَيْناهُ) فلم يكتف حتى قال : (وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) يريد العلم بتوحيد الله لا غيره ، فإنه العلم الذي يقع به الشرف له والسعادة ، وما عدا هذا لا يقوم مقامه في هذه المنزلة ، ونور العلم ينفر ظلمة الجهل. وقد يكون قوله تعالى : (وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً) به يشهد ، وهو نور الإيمان ، والكشف الذي أوحى الله به إليه ، أو امتن به عليه ، فليس مثله (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ) وإن كان حيا ـ وجه آخر ـ (وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) هو قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) ويعني بالنور المجعول هنا الشرع الموحى به (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) ولا حكم إلا للنور المجعول وهو الظاهر ، وهذا حكم نور الشرع على نور العقل من قوله تعالى : (نُورٌ عَلى نُورٍ) شعر :