في موافقة الأمر والإرادة ، وعالم كلفتهم في توجيه الخطاب الإلهي ، على هذا العالم الكياني ، مع رد الأفعال إليه ، واستحالة التكليف إليه ، فتاهت الألباب في هذا الباب ، واستوى فيه البصير والأعمى ، وزادهم في ذلك حيرة وعمى ، قوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) لكن ثم رقيقة ، وهي لعمر التصوف دقيقة ، أنه ما وجد شيء إلا وفيه منه حقيقة ، اسمع يا مربوب ربّ القدم ، امتنع المحدث أن تقوم به حقائق القدم ، وامتنع القديم أن تقوم به حقائق الحدوث لئلا يتقدم على وجوده العدم ، لكن تبلى جميع الصفات ، وإلا فمن أين ظهرت المتضادات والمتماثلات والمختلفات ، وليس القدم بصفة إثبات عين ، ولا الحدوث بوصف إثبات كون ، لكن لما تعذرت الأسباب في الوجودين ، ولم يكن للمعلوم الواحد تحصيل المعرفتين ، وأراد تمام الوجود ليعلم من الطريقين ، فظهر في الإيجاد تكليف محقق ، وعناء لا يتحقق ، فظهرت بينهما ، برازخ التكليف ، في مشهد التخيير والتوقيف ، ولهذا جاء الخبر بالعماء ، ما فوقه هواء وما تحته هواء ، فقال : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) قال ابن عباس : (ليعرفون) فلو عرف نفسه بمعرفتهم دونهم ، ما أوجد عيونهم ، فصح التكليف في القدم ، والخلق في حال العدم ، ومن هذه الحقيقة تكليف العباد ، وإن لم يكن لهم مدخل في الإيجاد ، عصمنا الله وإياكم من العناد ، وأمننا وإياكم من الفزع يوم التناد ، بكرمه.
(وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٣)
(وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) فإن أهل الدنيا كانوا أهل بغي وحسد وتدابر وتقاطع وغل وشحناء ، فأبدلهم الله بأهل الآخرة التي ينقلب المؤمنون إليها بمن وصفهم الله تعالى ، (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) إخوانا على سرر متقابلين ، فإن الجنة ليست بمحل تعن ولا تعد «وتودوا أن تكلم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون» اعلم أيدنا الله وإياك أن الجنة جنتان جنة محسوسة ، وجنة معنوية ، والعقل يعقلهما معا ، فالنفس الناطقة المخاطبة المكلفة