لان المقصود من الرؤية حصول العلم بالمرئي ، ولم يكن ذاك موطنه ومقامه ، ولا تزال ترى في كل رؤية خلاف ما تراه في الرؤية التي تقدمت ، فلا يحصل لك علم برؤية أصلا في المرئي ، فقال : (لَنْ تَرانِي) فإني لا أقبل من حيث أنا التنوع ، فإن رؤية المرئي تعطي العلم به ، ويعلم الرائي أنه راء أمرا ما ، وقد أحاط علما بما رآه ، والحق لا تنضبط رؤيته ، وما لا ينضبط لا يقال فيه إن الذي رآه عرف أنه رآه ، ولا تتعجب من طلب موسى عليهالسلام رؤية ربه ، فإنه ثمّ مقام يقتضي طلب الرؤية ، والإنسان بحكم الوقت ، ويحتمل أن موسى عليهالسلام منع من الرؤية بقوله تعالى : (لَنْ تَرانِي) لكونه سألها عن غير أمر إلهي ، فقيل له : (لَنْ تَرانِي) ثم استدرك استدراك لطيف بعبده ، لما انته فيه حد عقوبة فوت الأدب بالسؤال ابتداء ، الذي حمله عليه شوقه ، فلما علم أن اليأس قد قام به فيما طلبه ، استدرك بالإحالة على الجبل في استقراره ، عند التجلي ، فقال : (وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) والجبل من الممكنات (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) اعلم أنه لا يثبت لتجلي الحق ، فلا بد من تغير الحال ، فإن التجلي الإلهي يورث الخشوع ، قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : [إن الله إذا تجلى لشيء خشع له] فلما تجلى الحق للجبل نقله من حال الشموخ إلى حال الخشوع والاندكاك ، فإن للتجلي النقيضين ، يمحو ويثبت ، ويوجد ويعدم ، فقال تعالى : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ) ذلك التجلي (دَكًّا) فما أعدمه ، ولكنه أزال حاله ونعته ، ولم يزل عينه ، ولكن أزال شموخه وعلوه ، فكان أول جبل أنزله الله عن قهره وجبروته ، فإن الجبال ظهرت بصورة القهر حيث سكّنت ميد الأرض ، فلا تعرف التواضع ، فإنها ما كانت أرضا ثم صارت جبالا ، فصار جبل موسى بالتدكدك أرضا بعد ما كان جبلا ، ولو لا العظمة التي في نفس الجبل من ربه لما تدكدك لتجلي الرب له ، فإن الذوات لا تؤثر في أمثالها ، وإنما يؤثر في الأشياء قدرها ومنزلتها في نفس المؤثر فيه ، فعلمه بقدر ذلك المتجلي أثر فيه ، ما أثر فيه ما ظهر له ، فإنا نرى الملك إذ دخل في صورة العامة ومشى في السوق بين الناس وهم لا يعرفون أنه الملك لم يقم له وزن في نفوسهم ، فإذا لقيه في تلك الحالة من يعرفه قامت بنفسه عظمته وقدره ، فأثر فيه علمه به ، وكان نظر موسى عليهالسلام للجبل في حال شموخه ، وكان التجلي له من الجانب الذي لا يلي موسى ، فلما صار دكا ظهر لموسى ما صير الجبل دكا ، فخر موسى صعقا ، فإنه لما كان الجبل حجابا