حاصلة له لعلو مرتبته ، فإن ذوق الصادق ما هو ذوق الصديق ، فالرؤية ثابتة بلا شك ذوقا ونقلا لا عقلا ، فإن رؤية الله تعالى من محارات العقول ، ومما يوقف عندها ولا يقطع عليها بحكم من أحكامها الثلاثة ، إذ ليس للأنبياء ولا للأولياء علم بالله يكون عن فكر ، قد طهرهم الله عن ذلك ـ الوجه الثاني ـ (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) أي المصدقين بقولك (لَنْ تَرانِي) فإنه ما نزل هذا القول ابتداء إلا عليّ ، فأنا أول المؤمنين به ، ثم يتبعني في الإيمان به من سمعه إلى يوم القيامة ، فإنك ما قلت ذلك إلا لي ، وهو خبر ، فلذلك ألحقه بالإيمان لا بالعلم ، ولو لا ما أراد الإيمان بقوله (لَنْ تَرانِي) ما صحت الأولية ، فإن المؤمنين كانوا قبله ، ولكن بهذه الكلمة لم يكن ، فما ظهر الحق لطالب الرؤية ولا للجبل ، لأنه لو رآه الجبل أو موسى لثبت ، ولم يندك ولا صعق ، فإنه تعالى الوجود ، فلا يعطي إلا الوجود ، لأن الخير كله بيديه ، والوجود هو الخير كله ، فلما لم يكن مرئيا أثر الصعق والاندكاك ، ولذلك قلنا إن الصعق والاندكاك كانا عن مقدمة الرؤية ، ومن هذه الآية نفرق بين الرؤية والمشاهدة ، فالمشاهدة في حضرة التمثل كالتجلي الإلهي في الدار الآخرة الذي ينكرونه ، فإذا تحول لهم في علامة يعرفونه بها أقروا به وعرفوه ، وهو عين الأول المنكور ، وهو هذا الآخر المعروف ، فما أقروا إلا بالعلامة لا به ، فالمشاهدة شهود الشاهد الذي في القلب من الحق ، وهو الذي قيد بالعلامة ، والرؤية ليست كذلك ، ولهذا قال موسى : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) وما قال أشهدني ، فإنه مشهود له ما غاب عنه ، وكيف يغيب عن الأنبياء وليس يغيب عن الأولياء العارفين به؟ فقال له : (لَنْ تَرانِي) ولم يكن الجبل بأكرم على الله تعالى من موسى ، وإنما أحاله على الجبل لما قد ذكر سبحانه في قوله : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) والجبل من الأرض وموسى من الناس فخلق الجبل أكبر من خلق موسى من طريق المعنى ، أي نسبة الأرض والسماء إلى جانب الحق أكبر من خلق الناس من حيث ما فيهم من سماء وأرض ، فإنها في السماء والأرض معنى وصورة ، وهما في الناس معنى لا صورة ، والجامع بين المعنى والصورة أكبر في الدلالة ممن انفرد بأحدهما ، فجمع الجبل بين الصورة والمعنى ، فهو أكبر من جبل موسى المعنوي ، فإذا كان الجامع بين الأمرين وهو الأقوى والأحق باسم الجبل صار دكا عند التجلي ، فكيف يكون موسى حيث جبليته التي هي فيه معنى لا صورة؟ ولما كانت الرؤية لا تصح إلا لمن يثبت