أن يكون عند الموت عبدا محضا ، ليس فيه شيء من السيادة على أحد من المخلوقين ، ويرى نفسه فقيرة إلى كلّ شيء من العالم من حيث فقره إلى الله ـ تحقيق ـ اعلم أنه إذا انقطعت الأعمال من العبيد التي كانت عن تكليف مشروع لم تنقطع العبادة ، فإذا تناهى حد العمل الحسن والقبيح في أهل الجنة وأهل النار ، بقي جزاؤهم جزاء العبادة في السعداء ، وجزاء العبودية في أهل النار ، وهو جزاء لا ينقطع أبدا ، فهذا أعطاهم اتساع الرحمة وشمولها ، فإن المجرمين لم يزل عنهم شهود عبوديتهم وإن ادعوا ربانية ، فيعلمون من نفوسهم أنهم كاذبون ، بما يجدونه ، فتزول الدعوى بزوال أوانها ، وتبقى عليهم نسبة العبودية التي كانوا عليها في حال الدعوى وقبل الدعوى ، ويجنون ثمرة قولهم : (بَلى) فكانوا بمنزلة من أسلم بعد ارتداده ، فحكم على الكل سلطان (بَلى) فأعقبهم سعادة بعد ما مسهم من الشقاء بقدر ما كانوا عليه في زمان الدعوى ، فما زال حكم (بَلى) يصحبهم من وقته إلى ما لا يتناهى دنيا وبرزخا وآخره ، وعرضت عوارض لبعض الناس أخرجتهم في الظاهر عن حكم توحيدهم ، بما ادعوه من الألوهة في الشركاء ، فأثبتوه وزادوا ، وكل عارض زائل ، وحكمه يزول بزواله ، ويرجع الحكم إلى الأصل ، والأصل يقتضي السعادة ، فمآل الكل إن شاء الله إليها مع عمارة الدارين ، ولكل واحدة ملؤها ، والرحمة تصحبها كما صحبت هنا العبودية لكل أحد ممن بقي عليها أو ادعى الربوبية ، فإنه ادعى أمرا يعلم من نفسه خلافه ، فيرجع الأمر في الآخرة إلى حكم أخذ الميثاق بالرحمة التي وسعت كل شيء ـ إشارة ـ إنما كان الأخذ من ورائك ، ولو كان من أمامك ما ضل أحد ، التفسير حمل الظهور على الظهر ، والإشارة حمله على الظهور الذي هو ضد الخفا ، فكأنه يقول : أخذهم من ظهورهم لهم إلى ظهورهم له ، فأقروا ، أما قوله : (لو كان من أمامك ما ضل أحد) أي لو شهدتني من كوني قادرا ولا سبيل إلى ذلك ، ولما وقع حينئذ إنكار قط ، والأخذ إشارة إلى القهر.
(أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) (١٧٥)