أنزل الله على عبده يوم الفرقان ، ففرق بما أعلمه الله بين القبضتين ، وهم أبناء الآخرة وأبناء الدنيا (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا) إلى الله ، أي أبناء الآخرة بمحصل القربة والمكانة الزلفى إلى الله (وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى) عن الله أي أبناء الدنيا (وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) فجعل السفل لهم إذ كانت كلمة الذين كفروا السفلى ، ومن كان أسفل منك فأنت أعلى منه ، لأنكم أهل الله الذين لهم السعادة ، إذ كانت كلمة الله هي العليا.
ألا إن أهل الله بالعدوة الدنيا |
|
كما أن أهل الشرك بالعدوة القصوى |
فإن الذي أقصاه يمتاز بالسفلى |
|
وإن الذي أدناه قد فاز بالعليا |
ألا تلحظن الركب أسفل منهم |
|
فكل فريق من مكانته أدنى |
(إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (٤٤)
إن الله إذا قلل الكثير وهو كثير في نفس الأمر ، أو كثر القليل وهو قليل في نفس الأمر ، فما تراه إلا بعين الخيال لا بعين الحس ، وهو البصر نفسه في الحالين ، كما قال تعالى : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) وقال : (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) وما كانوا مثليهم في الحس ، فلو لم ترهم بعين الخيال لكان ما رأيت من العدد كذبا ، ولكان الذي يريه غير صادق فيما أراه إياك ، وإذا كان الذي أراك ذلك أراكه بعين الخيال كانت الكثرة في القليل حقا والقلة في الكثرة حقا ، لأنه حق في الخيال وليس بحق في الحس ، كما أراك اللبن في الخيال فشربته ولم يكن ذلك اللبن سوى عين العلم ، فما رأيته بعين الخيال في حال يقظتك وإن كنت لا تشعر بذلك ، فكذلك هو في نفس الأمر ، لأن الله صادق فيما يعلمه ، وهو في الخيال صدق كما رأيته.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ